الأحد 23 جمادى الأولى 1446 - 24 نوفمبر 2024
العربية

حكم دفن الموتى في القبور المنتشرة في بعض الدول كمصر

122417

تاريخ النشر : 28-12-2014

المشاهدات : 141320

السؤال


هل يجوز تجميع عظام قدامى الأموات فيما يسمى في مصر " عظامة " لقلة أو عدم وجود مكان للدفن ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
ينبغي أن يُتنبه إلى أن حرمة المؤمن بعد موته باقية ، كحرمته وهو حي ، فلا يجوز الاعتداء عليه ولا إهانته ، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا) رواه أبو داود (3207) . وحسنه ابن القطان ، وقال ابن دقيق العيد : إنه على شرط مسلم . وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (3/213) . وانظر : " التلخيص الحبير " لابن حجر (3/54) .
جاء في " عون المعبود شرح سنن أبي داود " :
"( كَكَسْرِهِ حَيًّا ) : يَعْنِي فِي الْإِثْم كَمَا فِي رِوَايَة ، قَالَ الطِّيبِيُّ : إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا يُهَان مَيِّتًا ، كَمَا لَا يُهَان حَيًّا " انتهى .

وقد جاء الشرع باحترام القبور والأموات وحرم إهانتها بأي طريق من طرق الإهانة ، حتى إن الشرع منع من الجلوس فوق القبر لما فيه من إهانة الميت وأذيته ، ومنع من مجرد الاتكاء والاستناد عليها ، وأمر الشرع من مشى داخل المقبرة ، وبين القبور ، أن يخلع نعليه ويمشي حافيا ( إلا إذا خشي من الشوك ونحوه ) ، وذلك احتراما للأموات ، حتى لا يمشي بنعله فوق رؤوسهم .
قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لسنن أبي داود (9/37-39) :
"ومن تدبر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر ، والاتكاء عليه ، والوطء عليه : علم أن النهي [ يعني : النهي عن المشي بين القبور بالنعلين ] : إنما كان احتراما لسكانها أن يُوطأ بالنعال فوق رؤوسهم ، ولهذا يُنهى عن التغوط بين القبور ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب : خير من الجلوس على القبر ، ومعلوم أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال .
وبالجملة : فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا ، فإن القبر قد صار داره ، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) ؛ فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره ، والقبور هي ديار الموتى ومنازلهم ، ومحل تزاورهم ، وعليها تنزل الرحمة من ربهم ، والفضل على محسنهم ...؛ فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرامُ هذه المنازل عن وطئها بالنعال ، واحترامُها ، بل هذا من تمام محاسنها " انتهى .

وكذلك حرم الشرع فتح القبر على الميت ، أو نبشه ، إلا لضرورة ، كنقله من موضعه إذا غمرته المياه ، أو خيف أن ينبشه الأعداء ويمثلوا بجثة ... ونحو ذلك ؛ وإنما حرم نبش القبر : لما فيه من أذية الميت وانتهاك حرمته ، وأذية أقاربه وأصحابه الأحياء ، فإنهم يؤذيهم ذلك .

ثانيا :
جاء الشرع بدفن كل ميت في قبر واحد ، ولا يدفن اثنان معاً في نفس الوقت ، أو يدفن أحدهما بعد الآخر بأيام أو شهور أو سنين ، إلا إذا بلي الأول تماما ، ولم يبق منه شيء ، والمدة التي يبلى فيها الميت تختلف من أرض إلى أرض ، غير أنها قد تمتد إلى نحو أربعين سنة .

وقد اتفق المسلمون على أن هذه هي السنة التي جاءت بها الشريعة : أن يدفن كل ميت في قبر خاص به ، وبعض العلماء يقول عن مخالفة ذلك : إنها حرام ، وبعضهم يقول : مكروه ، لكنهم اتفقوا –كما سبق- على أن الشرع جاء بأن كل ميت يكون في قبر ، إما على سبيل الوجوب ، وإما على سبيل الاستحباب .
قَالَ ابن الحاج المالكي : " اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُ : وَقْفٌ عَلَيْهِ ، مَا دَامَ شَيْءٌ مِنْهُ مَوْجُودًا فِيهِ ، حَتَّى يَفْنَى ، فَإِنْ فَنِيَ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ دَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ ، فَإِنْ بَقِيَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عِظَامِهِ فَالْحُرْمَةُ بَاقِيَةٌ لِجَمِيعِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْفَرَ عَنْهُ ، وَلَا يُدْفَنَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، وَلَا يُكْشَفَ عَنْهُ اتفاقا " انتهى من " المدخل " (ص 18) .

فهذا اتفاق العلماء على المنع من دفن ميت مع آخر ، وعلى أنه لا يجوز حفر القبر ولا كشفه عن الميت .
قال الشيخ ابن عثيمين في " الشرح الممتع " (5/368) :
"يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين ، أم امرأتين ، أم رجلاً وامرأة .
والدليل على ذلك : عمل المسلمين من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا : أن الإنسان يدفن في قبره وحده ، ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد ، بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.
قوله: إلا لضرورة ، وذلك بأن يكثر الموتى ، ويقل من يدفنهم ، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد " انتهى .

وقد قرر غير واحد من أهل العلم أيضا : تحريم دفن المرأة مع الرجل في قبر واحد ، وليست العلة في تحريم دفن الرجل مع المرأة هي الاختلاط ، فإن منع الاختلاط في الدنيا إنما كان خوفا من الانجرار بالشهوة إلى الحرام ، أما العلة بعد الموت فهي ما في ذلك من هتك حرمة الميت وأذيته ، ولذلك يمنع دفن الرجل مع الرجل ، والمرأة مع المرأة ، حتى المرأة مع ابنها الصغير .
جاء في " حاشية الشرواني على تحفة المحتاج "(2/173) :
قال ابن حجر : "وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ ، أَيْ لَحْدٍ أَوْ شَقٍّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَاجِزِ بِنَاءً بَيْنَهُمَا ، أَيْ يُنْدَبُ أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ ـ فَيُكْرَهُ إنَّ اتَّحَدَا نَوْعًا ، أَوْ اخْتَلَفَا " .
فعلق الشرواني : "(قَوْلُهُ فَيُكْرَهُ ... إلَخْ) وَالْمُعْتَمَدُ : التَّحْرِيمُ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ ، مُطْلَقًا ؛ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمِيَّةٌ وَاتَّحَدَ الْجِنْسُ ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ الْجَمْعِ التَّأَذِّي ، لَا الشَّهْوَةُ ..." انتهى .
والظاهر من تنصيص أهل العلم على المنع من الجمع بين الرجل والمرأة في قبر واحد ، وعدم الاكتفاء بالنهي عن مطلق الجمع : أن التأذي من جمع الرجل والمرأة في قبر واحد : هو قدر خاص من التأذي ، فوق ما يحصل من مجرد الجمع بين رجلين ، أو امرأتين في قبر واحد .

ثالثاً :
إذا تقررت هذه الأصول التي قدمنا بها الجواب ، فيقال في المسألة المذكورة :
إن طريقة دفن الموتى المتبعة في كثير من مدن وقرى مصر هي : بناء ما يشبه الغرفة الصغيرة فوق سطح الأرض ، ويوضع فيها الميت ولا يدفن تحت الأرض ، ثم يغلق عليه الباب ، وهذا البناء يسع ما يقرب من خمسة أشخاص ، ويكون هذا القبر للعائلة كلها ، فكلما مات منهم شخص فُتح القبر ووضع ذلك الميت فيه ، فإذا امتلأ القبر أخرجت منه العظام ، وجمعت في مكان يسمى (عظامة) .
وهذه الطريقة للدفن طريقة غير شرعية وغير جائزة ، وهي ليست وليدة اليوم بل جرى عليها العمل هناك منذ سنوات طويلة ، ربما تعود إلى مئات السنين ، وقد كانت تسمى قديما بـ (الفَسْقِيّة) وجَمْعُها (الفَسَاقيّ) ، ومن رآها من علماء هذه البلاد ، في وقته : أنكرها ، وبَيَّن ما فيها من مخالفات للشريعة . كما سيأتي النقل عن بعضهم .

وقد خالفت هذه الطريقة في الدفن الشريعة في عدة أمور :
1- عدم دفن الميت في باطن الأرض ، وإنما يوضع على ظهرها .
2- البناء على القبر وتجصيصه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
3- دفن أكثر من شخص في مكان واحد ، وكذلك جمع الرجال مع النساء في قبر واحد .
قال ابن عابدين رحمه الله :
"ويكره الدفن في الفَسَاقِيّ .
وهي كبيت معقود بالبناء يسع جماعة قياما ؛ لمخالفتها السنة .
والكراهة فيها من وجوه : عدم اللحد ، ودفن الجماعة في قبر واحد بلا ضرورة ، واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز، وتجصيصها، والبناء عليها .
قال في "الحلية" : وخصوصا إن كان فيها ميت لم يَبْلَ ، وما يفعله جهلة الحفارين من نبش القبور التي لم تَبْل أربابُها ، وإدخال أجانب عليهم : فهو من المنكر الظاهر... ، وإدخال البعض على البعض قبل البِلى ، مع ما فيه من هتك حرمة الميت الأول ، وتفريق أجزائه ؛ فالحذر من ذلك .
وفي التاترخانية (أحد كتب علماء الأحناف) : وإن جمعوا عظامه في ناحية ثم دفن غيره فيه تبركا بالجيران الصالحين ويوجد موضع فارغ يكره ذلك" انتهى من " حاشية ابن عابدين " (2/253).

وجاء في "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج" (3/173):
"لَوْ وُضِعَتْ الْأَمْوَاتُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ فِي لَحْدٍ أَوْ فَسْقِيَّةٍ كَمَا تُوضَعُ الْأَمْتِعَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَهَلْ يَسُوغُ النَّبْشُ حِينَئِذٍ لِيُوضَعُوا عَلَى وَجْهٍ جَائِزٍ إنْ وَسِعَ الْمَكَانُ وَإِلَّا نُقِلُوا لِمَحَلٍّ آخَرَ ؟ الْوَجْهُ : الْجَوَازُ ؛ بَلْ الْوُجُوبُ ..." انتهى .
فصرح بوجوب نبش القبر لمنع هذه المخالفة ، وذلك يدل على أن دفن ميت فوق آخر حرام .

رابعا :
وأما نقل عظام الميت من القبر : فلا يجوز ذلك ، وهو اعتداء عظيم على الميت وانتهاك لحرمته .
جاء في "حاشية الشرواني" : (3/174) ، تعليقا على قول ابن حجر : "(قَوْلُهُ : نَحَاهُ) أَيْ نَحَى الْعَظْمَ في جانب القبر ...لِأَنَّ الْإِيذَاءَ هُنَا أَشَدُّ" .
فعلق الشرواني : (قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ ... إلَخْ) : ظَاهِرُهُ الْحُرْمَةُ ، وَإِنْ وُضِعَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ، كَمَا لَوْ فُرِشَ عَلَى الْعِظَامِ رَمْلٌ ثُمَّ وُضِعَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ ...
أَقُولُ : قَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ قَوْلَ شَيْخِنَا : وَيَحْرُمُ جَمْعُ عِظَامِ الْمَوْتَى لِدَفْنِ غَيْرِهِمْ ، وَكَذَا : وَضَعَ الْمَيِّتِ فَوْقَهَا" انتهى .

ففي هذا : تحريم وضع الميت فوق آخر ، وتحريم جمع عظام الموتى لدفن غيرهم ، وهو الوارد في السؤال .

وقد صرح بعض أهل العلم بالمنع من نقل عظام الميت مطلقا ، ولو كان نقلها إلى جانب القبر ، لما في ذلك من الاعتداء على الميت وأذيته ، وقد يتسبب نقلها في كسرها ، فيكون ذلك أشد في الاعتداء والأذية للميت .
جاء في "حاشية الطحطاوي على "مراقي الفلاح" (613) : " ولا يخفى أن ضم عظام المسلم يحصل به إخلال ، ولا تخلو به عن كسر بسبب التحويل ، خصوصا الآن ، كما اعتاده الحفارون من إتلاف القبور التي لا تزار إلا قليلا ، ولا يتعاهدها أهلها ، ونقل عظام الموتى أو طمسها أو جمعها في حفرة ، وإيهام أن المحل لم يكن به ميت .
فلا يقال : تضم ، أو تجعل عظام الأول في موضع ؛ دفعا للضرر عن موتى المسلمين" انتهى.

فمنع نقلها إلى جانب القبر أو خارجه ، ومنع جمع عظام أكثر من ميت في قبر واحد ، كل ذلك دفعا للضرر عن موتى المسلمين .

غير أننا نرجو أن تكون الضرورة تبيح نقلها إلى جانب القبر ، دون نقلها خارجه ، كما نص على ذلك بعض أهل العلم ، مع الاحتراز التام من أذية الميت ، والرفق بعظامه حتى لا تكسر العظام أثناء تنحيتها .
قال النووي رحمه الله في " المجموع " (5/247) :
قال الأصحاب (يعني علماء الشافعية) : " فلو حفره ، فوجد فيه عظام الميت : أعاد القبر ولم يُتمم حفرَه .
قال أصحابنا : إلا أن الشافعي رحمه الله قال : فلو فرغ من القبر ، وظهر فيه شيء من العظام: لم يمتنع أن يُجعل في جنب القبر ، ويدفن الثاني معه .
وكذا : لو دعت الحاجة إلى دفن الثاني مع العظام ، دُفِن معها" انتهى .

فهنا يفرق الإمام الشافعي بين إذا وجد حافر القبر عظاما للميت قبل إتمام الحفر : فلا يجوز نقله ، ولا يجوز الدفن معه ، بل يرى أنه يجب إعادة القبر كما كان ، ويدفن الميت الثاني في مكان آخر .
أما إذا وجدها بعد تمام الحفر : فيجيز الإمام الشافعي أن تجعل عظام الميت في جانب القبر ، ويدفن الثاني معه .

وإذا جاز أن يدفن ميت مع آخر في قبر واحد ، أو ضم ما تفرق من عظام الميت الأول في ناحية من القبر ، للضرورة ؛ فلا يجوز إخراج عظام الأول من القبر ، ولا الدفن فوقها ؛ بل غاية ما يقال : أن تجعل عظامه في جانب القبر .
ويجب على من ينقلها أن يكون رفيقا بها إلى أقصى درجة ممكنة ، حتى لا تنكسر العظام عند نقلها ، ثم يجعل حاجزا من التراب بين الأول والثاني ، حتى يصير الحال ، كما لو أن كلا منهما في قبر مستقل .

وأما جمع العظام جميعا في مكان واحد يسمى (عظامة) خارج القبر ، واختلاط بعضها ببعض ، وجعل بعضها فوق بعض ، ولا يبالي الناقل لها بكسرها ، فذلك عمل محرم لا ضرورة إليه ، وفيه من أذية الميت وانتهاك حرمته شيء عظيم .

خامساً :
بعد تقرير ذلك كله ، ننبه ـ أيضا ـ إلى أن بعض قد أهل العلم قد نصوا على جواز الدفن في تلك المقابر الموجودة بمصر ، مع التسليم بأنها مخالفة للشرع ، إلا أنها تجوز للضرورة ، لتعذر أن يجد الناس بديلا لها ، يسع موتاهم ، فيتدافنوا فيه .
وهذا هو الصواب في حكم هذه المسألة ، إن شاء الله .

وقد ذكر "الطحطاوي" قول "المراقي" في المنع من الدفن في هذه القبور :
" ويكره الدفن في" الأماكن التي تسمى "الفساقي" ، وهي كبيت معقود في البناء ، يسع جماعة قياما ، ونحوه ؛ لمخالفتها السنة . ولا بأس بدفن أكثر من واحد في قبر واحد ؛ للضرورة " .
فعلق الطحطاوي على هذا قائلا :
ويكره الدفن في الفساقي من وجوه : الأول : عدم اللحد . الثاني : دفن الجماعة لغير ضرورة . الثالث : اختلاط الرجل بالنساء من غير حاجز ، كما هو الواقع في كثير منها . الرابع : تجصيصها والبناء عليها .." .
ثم قال :
" إلا أن في نحو قرافة مصر : لا يتأتَّى اللحد ، ودفن الجماعة : لتحقق الضرورة ، وأما البناء : فقد تقدم الاختلاف فيه ، وأما الاختلاط : فللضرورة ، فإذا فُعل الحاجز بين الأموات فلا كراهة . وصرح المصنف بعد بجواز دفن المتعددين في قبر واحد للضرورة ...
وسئل أبو بكر الإسكافي عن المرأة تُقْبَر في قبر الرجل ؟ فقال : إن كان الرجل قد بلي ، ولم يبق له لحم ولا عظم : جاز ، وكذا العكس ، وإلا .. فإن كانوا لا يجدون بُدًّا : يجعلون عظام الأول في موضع ، وليجعلوا بينهما حاجزا بالصعيد [يعني : التراب] " انتهى من " حاشية الطحطاوي على المراقي " (612) .

وفي " حاشية الشرواني على تحفة المحتاج " (3/173) :
قال ابن حجر : "وَيَحْرُمُ أَيْضًا إدْخَالُ مَيِّتٍ عَلَى آخَرَ ، وَإِنْ اتَّحَدَا [ يعني : اتحدا في الجنس ، كما لو كانا رجلين أو امرأتين ] قَبْلَ بِلَى جَمِيعِهِ" .
قال الشرواني : "وَمَحَلُّ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ؛ وَأَمَّا عِنْدَهَا : فَيَجُوزُ ، كَمَا فِي الِابْتِدَاء" انتهى .

سادساً :
وقد أفتى بعض علماء مصر المعاصرين بجواز الدفن في هذه المقابر للضرورة .
فقد سئل مفتي مصر السابق الشيخ أحمد هريدي الذي تولى منصب الإفتاء سنة 1960 إلى سنة 1970م. عن رجل بنى مقبرة ، على أن يدفن فيها الرجال والنساء من أهله ، وقد أفاد البعض منهم أن دفن الرجال مع النساء لا يجوز . وأنه فقير لا يستطيع بناء مقبرة ثانية حتى يخصص واحدة للرجال وواحدة للنساء ، فما حكم ذلك ؟
فأجاب :
" المنصوص عليه شرعا : أن الميت يدفن في قبره لحدا ، إن كانت الأرض صلبة ، وشقا إن كانت رخوة . ولا يدفن معه غيره إلا عند الضرورة ، كضيق المقابر مثلا، فإنه يجوز دفن أكثر من واحد في مقبرة واحدة ، على أن يدفن الرجل الأكبر من جهة القبلة ، ثم يليه الأصغر، ويقدم الرجال على النساء ، ويحال بينهما بالتراب ، ولا يكفى الكفن في الحيلولة .
وعلى ذلك : فإنه يجوز دفن الرجال والنساء في مقبرة السائل ، للضرورة التي هي عجزه عن بناء مقبرة أخرى للنساء بالطريق المشروحة ، بشرط أن يجعل بين كل ميت حائلا من التراب" انتهى .
من " فتاوى الأزهر " (5/484) بترقيم الشاملة.

وسئل الشيخ عطية صقر رحمه الله رئيس لجنة الإفتاء بالأزهر المتوفى سنة 2006م : هل يجوز دفن شخصين في قبر واحد ؟
فأجاب :
"الأصل في الدفن أن يكون لكل ميت قبر خاص به ، أما دفن أكثر من واحد في قبر واحد : فهو حرام عند جمهور الفقهاء، ومكروه فقط عند أبى حنيفة ، ومحل ذلك : إذا لم تكن هناك ضرورة أو حاجة ، فإن وجدت ضرورة ، ككثرة الموتى ، وتعَسُّر إفراد كل بقبر، أو وجدت حاجة ، كالمشقة في حفر قبر لكل ميت : جاز جمع أكثر من واحد في قبر، سواء أكانوا من جنس واحد أم من جنسين ، على أن يقدم الذكر على الأنثى في دفنه جهة القبلة ...
وجاء في كتاب " الإقناع " للخطيب في فقه الشافعية ما يأتي : ولا يجمع رجل وامرأة في قبر إلا لضرورة ، فيحرم عند عدمها-يعنى عدم الضرورة-كما في الحياة -يعنى كما لو كانوا أحياء – ولا فرق بين المَحْرم وغيره ، كما في المجموع للنووي ، فإنه قال : يحرم دفن الأم مع ولدها . وهذا هو الظاهر، إذ العلة في منع الجمع : هي الإِيذاء ، لأن الشهوة قد انقطعت فلا فرق بين المحرم وغيره ، ولا بين أن يكون من جنس واحد أم لا، ويحجز بينهما بتراب ، حيث جمع بينهما ، وذلك على سبيل الندب - حتى لو اتحد الجنس –" انتهى باختصار من " فتاوى الأزهر "(8/289) بترقيم الشاملة .

وهذا هو الصواب في حكم هذه المسألة ، إن شاء الله : أن الضرورة تبيح الدفن بهذه الطريقة ، وقد قال الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الأنعام/119.

غير أنه يجب التنبه إلى مسألة غاية في الأهمية ، وهي : أن الضرورة تقدر بقدرها ، كما قال العلماء . ومعنى ذلك : تضييق دائرة الضرورة بقدر الإمكان ، وعدم التوسع فيها ؛ فإذا جاز للفقير أن يدفن في تلك المقابر ، لأنه لا مال له يشتري به قبرا خاصا به ، لم يجز ذلك للغني الذي يجد مالا يشتري به قبرا له ، ويكون هذا المال مقدما في التركة على حق الورثة ، حتى إنه لو لم يترك إلا هذا المال فقط ، لوجب أن يُشترى به قبر له ، ويدفن فيه وحده ، ولا حق للورثة في هذا المال ؛ لأن مؤن الدفن مقدمة على حق الورثة .

وإذا جاز وضع الميت على سطح الأرض والبناء على القبر للضرورة ، لعدم إمكان الدفن في باطن الأرض بسبب المياه الجوفية أو غيرها ، فينبغي أن يكون ذلك في المكان الذي يتعذر فيه الدفن في باطن الأرض فقط .
أما إذا وجد مكان في بعض المدن أو القرى ، يصلح للدفن فيه في باطن الأرض : فالواجب أن يكون الدفن في مثل هذا المكان الصالح لمراعاة السنة بالدفن فيه ؛ ولم يجز حينئذ وضع الميت على سطح الأرض والبناء فوقه .
وإذا كانت الأرض رخوة ، فلا مانع من وضع الميت في تابوت ، ويوضع في باطن الأرض ؛ فذلك خير من البناء على القبر .

وقد نص العلماء على جواز وضع الميت في تابوت إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك .
قال النووي رحمه الله :
"قال المصنف [ وهو أبو إسحاق الشيرازي ] وسائر الأصحاب : يكره أن يدفن الميت في تابوت ؛ إلا إذا كانت الأرض رخوة أو ندية . قالوا : ولا تنفذ وصيته به إلا في مثل هذا الحال . قالوا : ويكون التابوت من رأس المال ، صرح به البغوي وغيره" انتهى من "المجموع" (5/525) .

ومعنى أن التابوت من رأس المال : أنه مقدم على حق الورثة في التركة ، فيؤخذ ثمن التابوت من التركة أولا ، ثم بعد ذلك يقسم الباقي على الورثة .

وإذا جاز البناء على القبر : فالواجب أن يكون البناء بقدر الضرورة فقط ، وهي حفظ الميت ، فلا يرفع البناء ، ولا يزين ، ولا يشيد ، كما قد صار واقع الناس اليوم في مصر ونحوها ، حتى صارت بعض القبور أشبه بالبيوت المهيأة لسكنى الأحياء على أبهى منظر وزينة ، ودخلت فيها المباهاة والفخر ؛ ومثل ذلك : لا يشك في تحريمه ، ولا حاجة تدعو إلى مثله أصلا .

نسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بشريعته ، ففيها الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة .
والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب