الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

تقسيم الأحاديث إلى آحاد ومتواتر لا يعني التشكيك في صحتها

126571

تاريخ النشر : 01-03-2009

المشاهدات : 86142

السؤال

اعتنقت الإسلام والحمد لله ، وبسبب أني أدرس التأريخ والحديث في جامعتي ، فأنا مهتمة بعلم الحديث ، وحسب علمي أن الأحاديث إما صحيح أو ضعيف ، ولكني اكتشفت أن هناك المتواتر والآحاد ، وأن الأحاديث المتواترة قليلة جدًّا ، قد لا تصل إلى عدد مائة حديث ، وأن هذه الأحاديث هي المقطوع بصحتها مائة بالمائة ، أما ما سواها فليس هناك نوع مقطوع بصحته مائة بالمائة ، بما في ذلك الأحاديث الصحيحة ، فهل هذا صحيح أم لا ؟ وإذا كان الأمر هكذا فما هي هذه الأحاديث المتواترة ، ولماذا لا يُؤكد عليها أكثر من غيرها ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

بداية فالشكر لله عز وجل أن أنعم عليك بنعمة الإسلام وهداية الإيمان ، وأن ألهمك سبحانه سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، فالإسلام دين الأخلاق والقيم ، كما هو دين الشريعة العادلة والأحكام التي تُصلِح أحوالَ الناس ، وهو الدين الذي أكمل الله به الرسالات السابقة ، يمتاز أتباعُه بأنهم يؤمنون بجميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فهنيئا لك هذا الباب من السعادة في الدنيا والآخرة ، واسألي الله دائما الثبات والتوفيق .

ثم نرحب بك معنا في موقعنا ، وسوف نكون سعداء إذا أرسلت إلينا بما عندك من أسئلة واستفسارات ، فنرجو ألا تترددي في الكتابة بما عندك .

ثانيا :

وفي شأن علم الحديث الشريف ، فهو علم غاية في الدقة ، غاية في الإحكام ، دُوِّنَت فيه آلاف الصفحات ، وبُذلت في سبيله الأرواح والأموال والأعمار ، حتى استطاع المسلمون الذين أحبوا نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينقلوا أقواله وأفعاله وصفاته وأحواله لجميع العصور من بعدهم ، حتى نقلوا ضحكاته وسكتاته ، ونقلوا قيامه وقعوده ، ونومه ويقظته ، نقلوا تفاصيل كثيرة عن هذا النبي العظيم .

ثالثا :

أما عن تحديد زمن كتابة الأحاديث النبوية ، فهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس بسبب تحريف بعض المستشرقين للحقائق التاريخية ، فقد ثبت بالأدلة القطعية أن كتابة الأحاديث وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته ، وأن الذي تأخر هو جمعها كلها في كتاب واحد ، وترتيبها على الأبواب ، والعناية بتأليفها وتصنيفها ، والأدلة على ذلك كثيرة جدا ، لا يُنكِرها إلا جاحد معاند يبتغي تشكيك المسلمين بدينهم ، أو جاهلٌ لا يعرف أن كتابة السنة وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن تدوينها – بمعنى تأليف الكتب الكبار في جمعها وتصنيفها والعناية بها – هو الذي تأخر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال :

( كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، وَقَالُوا : أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ ) . رواه أبو داود (3646) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .

فانظري كيف أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل شيء يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى جمع من الأحاديث كتابا كبيرا كان يسمى " الصحيفة الصادقة "، وهي من أشهر الصحف الحديثية المكتوبة في العصر النبوي ، فهناك صحف – أي كتب – كثيرة كان الصحابة يكتبون فيها الأحاديث التي يسمعونها من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكثير منها محفوظ بنصه إلى اليوم ، وما تَبَقَّى رواه لنا الأئمة الكبار كالبخاري ومسلم في كتبهم ، ومن أراد الاطلاع على جميع ما ورد في ذلك فليرجع إلى ثلاثة دراسات مهمة في هذا الموضوع ، وهي :

1- " دراسات في الحديث النبوي ": تأليف الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي.

2- " تدوين السنة النبوية " للدكتور محمد مطر الزهراني.

3- " تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين " للدكتور حاكم بن عبيسان المطيري . ففي هذه الكتب شرح مفصل وبيان دقيق لهذه المسألة المهمة ، وقد ذكرنا لك هنا خلاصة الأفكار التي جاءت في هذه الكتب .

رابعا :

أما عن فكرة درجة التصديق بما جاء في الأحاديث تبعا لتنوعها بين الآحاد والمتواتر ، فنحب أن ننبه هنا إلى أنها مسألة تحكمها الاحتمالات والافتراضات العقلية أكثر من تعلقها بالواقع العملي ، وقواعد العلماء في التصحيح والتضعيف ؛ وعلم الحديث إنما يقرر القواعد التي نستطيع من خلالها الحكم على الحديث بالقبول أو الرد ، والقبول بمعنى التصديق بصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه من قوله عليه الصلاة والسلام ، بغض النظر عن درجة ذلك القبول .

ولكي تتضح الصورة ، نضرب لك مثالا يوضح لك المسألة إن شاء الله ، ويبين لك أن تقسيم العلماء للأحاديث إلى متواتر وآحاد ، لا يعني الشك في ثبوت أحاديث الآحاد :

إذا جاءت واحدة من زميلاتك الطالبات فأخبرتك أن المعلمة قد حددت موعدا للاختبار في اليوم الفلاني ، وأنت لا تشكين في صدق هذه الطالبة ، ولا تشكين في حفظها ونباهتها ، ألا يكفي ذلك بالنسبة لك لبدء الإعداد لذلك الامتحان والتحضير له ، أوليس خبرها كافيا أيضا لتوجيه اللوم لك إن قصرت في التحضير للامتحان ، وكل من حولك سواء من أهلك أو زميلاتك أو معلماتك سيتوجهون إليك بأصابع الاتهام بالتقصير إن أنت لم تحصلي على علامة جيدة .

هذا هو معنى كون خبر زميلتك هذه مقبول عندك .

فما رأيك إذا جاءت صديقة أخرى فأخبرتك الخبر نفسه ! لا شك أن ذلك سيؤكد الخبر بالنسبة لك، ولكن تأكيد الخبر لا يعني أن خبر صديقتك الأولى لم يكن كافيا ، أو لم يكن مفيدا ، بل هو كاف ومفيد ، ولكن أخبار الصديقات الأخريات عززه وأكده .

فما رأيك إذا رجعت إلى الجامعة فسمعت من معلمتك نفسها عن موعد الاختبار ، ألا يبلغ قلبك حينئذ درجة من العلم قد لا يمكن تأكيدها أكثر من ذلك ! فهل هذا يعني أن إخبار صديقاتك لك لم يكن كافيا بالنسبة لك ، أم أنه كان كافيا ولكن سماعك من معلمتك بلغ بقلبك مرحلة اليقين .

هذا هو معنى ما يتكلم به بعض أهل العلم أن حديث الآحاد ليس كالحديث المتواتر ، ونحن نقول : نعم ، والحديث المتواتر أيضا ليس كالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، ولكن ذلك لا يعني أن حديث الآحاد غير مقبول وغير كاف لإقامة الحجة على العباد ، تماما كما أن كل العقلاء يعرفون أن خبر صديقتك الصادقة الحافظة لك أنها سمعت المعلمة تحدد موعد الامتحان كاف في إقامة الحجة عليك ، ودفعك للتحضير والدراسة .

نرجو أن تكون المسألة أصبحت واضحة بهذا المثال .

ثم نزيد فنقول ، إن ما أشرت إليه من أحاديث البخاري ومسلم ، أو غيرهما ، مما تلقاه أهل العلم بالقبول ، قد جاء ما يقويها ويؤكدها ويرفعها إلى مرتبة إفادة العلم ، ووجوب تصديقها ، والعمل بما فيها :

1- فأكثرها جاء من طرق وروايات وأسانيد كثيرة ، مما يؤكد مضمون الحديث وصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أراد التأكد من ذلك فليرجع إلى الكتب الستة ليرى كيف أن الحديث الواحد يرويه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وهكذا ، وإن لم يبلغ حد التواتر .

2- وكثير من أحاديث الآحاد أجمعت عليها الأمة ، وتلقاها العلماء بالقبول ، من عهد الصحابة إلى يومنا هذا ، وعملوا بها جميعا ، وهذا أيضا يؤكد ويقوي هذه الأحاديث ، مثال ذلك الأحاديث الواردة في الصحيحين : البخاري ومسلم ، فما زال العلماء يقبلونها ويعملون بما فيها ، ومعلوم أن اتفاق العلماء على مر العصور على قبول حديث معين علامة من علامات تأكيده وقوته .

3- بل وكثير من هذه الأحاديث الصحيحة تشهد لها آيات من القرآن الكريم ، وتشهد لها أقوال الصحابة الكرام ، بل ويشهد لها الواقع والتاريخ أيضا ، فكل هذه مؤكدات ترفع مستوى التصديق بخبر الآحاد .

وهذه المؤكدات يسميها العلماء " القرائن "، أي المؤكدات التي تثبت الأحاديث وتؤكدها ، وقد رجح المحققون من العلماء أن حديث الآحاد إذا اقترنت به بعض هذه المؤكدات فإنه يفيد العلم الذي يفيده الحديث المتواتر .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" وأما المتواتر فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور ، بل إذا حصل العلم عن إخبار المُخبِرين كان الخبر متواترا ، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبِرين به ، فرب عدد قليل أفاد خبرُهم العلم بما يوجب صدقهم ، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم ؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم ؛ وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلَمُ علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، تارة لتواتره عندهم ، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول ، وخبر الواحد المتلقَّى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك ؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن ؛ لكن لمَّا اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق ، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكمٍ مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد ، فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور ، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي ؛ لأن الإجماع معصوم ، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يُجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال ، كذلك أهل العلم بالحديث ، لا يُجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق ، وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار ، توجب لهم العلم ، ومَن عَلِمَ ما عَلِمُوه حَصَلَ له مِن العلم ما حصل لهم " انتهى.

" مجموع الفتاوى " (18/40-41) .

وبناء على ما سبق ، فإن الذي يحتاجه المسلم ، وهو الأمر الذي تفضلتِ ـ أختنا الكريمة ـ بالإشارة إلى أهمية العناية به من المسلمين ، ليس هو ما يطلق عليه ـ اصطلاحا ـ : الحديث المتواتر ؛ فإن هذا بحث علمي اصطلاحي ، وإنما الذي تريدينه ، وهو ما ثبت لدى أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، دائرته أوسع من ذلك بكثير ، كما مر معنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ويدخل في هذه الدائرة الواسعة ، التي يجب على المسلم العناية بها ، أحاديث الصحيحين : البخاري ومسلم ، فقد تلقى العلماء هذين الكتابين بالقبول ، واعتمدوا على أحاديثهما .

فإياك أن تظني أن معنى كون الحديث آحادا أنه مشكوك في صحته ، وإياك أن تظني أن الأحاديث التي تأكدت صحتها يقينا هي المتواتر فقط .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب