الحمد لله.
أولا :
القرآن والسنة في منزلة واحدة باعتبارهما مصادر مِن مصادر التشريع الإسلامي ، والله عز وجل يقول : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) النجم/3-4.
وقد بوب الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه القيم " الكفاية في علم الرواية " (ص/23) بقوله : " باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى ، وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في وجوب العمل ، ولزوم التكليف " انتهى.
وأورد تحته حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبعَان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ ، فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ )
رواه الترمذي (2664) وقال : حسن غريب من هذا الوجه . وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2870)
والسنة مبينة لما أجمل في كتاب الله ، تخصص عمومه ، وتقيِّدُ مطلقه ، وتبين الناسخ من المنسوخ فيه ، حتى قال إمام التابعين مكحول رحمه الله : " القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن " انتهى. " الكفاية " (ص/30)
ثانيا :
أما تخصيص عمومات القرآن الكريم بالسنة النبوية فقد ذهب إلى جوازه جماهير الأصوليين .
يقول ابن النجار الفتوحي رحمه الله :
" يخصَّصُ الكتابُ ببعضه ، وبالسنة مطلقا ، سواء كانت متواترة أو آحاد :
مثال تخصيص الكتاب بالسنة - حتى مع كونها آحادا ، عند أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم - : قوله سبحانه وتعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم )، فإنه مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ) متفق عليه ، ونحوه تخصيص آية السرقة بما دون النصاب ، وقتل المشركين بإخراج المجوس ، وغير ذلك .
قال ابن مفلح : وعند الحنفية إن كان خص بدليل مجمع عليه جاز ، وإلا فلا . وقيل : بالوقف . وقيل : يجوز ولم يقع " انتهى باختصار.
" شرح الكوكب المنير " (3/359-363)
ويقول الشوكاني رحمه الله :
" اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد :
فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقا .
وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقا ، وحكاه الغزالي في " المنخول " عن المعتزلة ، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ، ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق .
وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل ، سواء كان قطعيا أو ظنيا ، وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز .
وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف .
واستدل في المحصول على ما ذهب إليه الجمهور بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان ، وخبر الواحد أخص من العموم ، فوجب تقديمه على العموم .
واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة ، فإنهم خصوا قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنا معشر الأنبياء لا نورث )، وخصوا التوارث بالمسلمين عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يرث المسلم الكافر )، وخصوا قوله : ( فاقتلوا المشركين ) بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس ، وغير ذلك كثير .
وأيضا يدل على جواز التخصيص دلالة بينه واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تقييد ، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا ، وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ، ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية ، فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية " انتهى.
" إرشاد الفحول " (ص/267-286)
ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" اعلم أن التحقيق أنه يجوز تخصيص المتواتر بأخبار الآحاد ؛ لأن التخصيص بيان ، وقد قدمنا أن المتواتر يبيَّن بالآحاد ، قرآنًا أو سنة " انتهى.
" مذكرة أصول الفقه " (ص/222)
ثالثا :
وأما مسألة نسخ السنة لنصوص القرآن الكريم ، فقد اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : لا يجوز نسخ السنة الآحادية لنصوص القرآن الكريم : وهو قول جماهير الأصوليين .
بل إن الشافعي في " الرسالة " (ص/106-109) وأحمد رحمهما الله اختارا عدم جواز نسخ السنة المتواترة للقرآن الكريم ، واختاره أيضا ابن قدامة ، وابن تيمية .
يمكن مراجعة المسألة بتوسع في : " البحر المحيط " للزركشي الشافعي (5/262-272)
القول الثاني : يجوز نسخ السنة الآحادية لنصوص القرآن الكريم ، وإليه ذهب بعض الأصوليين من الحنفية كما في " (3/62)، وهو اختيار السبكي في " جمع الجوامع " (ص/57) حيث قال: " والنسخ بالقرآن لقرآن وسنة ، وبالسنة للقرآن ، وقيل يمتنع بالآحاد ، والحق لم يقع إلا بالمتواترة " انتهى.
وهو اختيار العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ، حيث يقول :
" الذي يظهر لنا أنه الصواب : هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه ، وأنه لا معارضة بينهما ; لأن المتواتر حق ، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل ، فلا معارضة بينهما البتة لاختلاف زمنهما .
فقوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم )
يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية ; لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك .
فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة ، فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح ، وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين ; لأن الحديث دل على تحريم جديد ، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح .
فالتحقيق - إن شاء الله - هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين " انتهى.
" أضواء البيان " (2/451-452)
والله أعلم .
تعليق