الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

والداه يريدان الانفصال وكل منهما يريده أن يقف إلى صفه

175863

تاريخ النشر : 21-03-2012

المشاهدات : 14097

السؤال


اتجه أبي وأمي إلى المحكمة ؛ لاستصدار حكم الطلاق ، أمّي تقول أن ادعاءات أبي كلها كاذبة ، وأبي يقول أن ادعاءات أمّي كلها كاذبة ، وأنا الآن بين المطرقة والسندان ، فأمّي تطلب مني أن أقف إلى صفها وأبي يطلب أن أقف إلى صفه . وأنا كابن أراني في حيرة من أمري ولا استطيع أن أفضّل هذا على هذا ، وأعلم أن كلا منهما يتحمل جزءاً من الخطأ والمسؤولية ، لقد نصحتهما وذكرتهما بالله ، وطلبت منهما أن يعودا إلى كتاب الله وسنة رسوله ففيهما الخير والحل والكفاية ، ولكن دونما فائدة . فما نصيحتكم لي، ماذا يجب علىّ أن أفعل في مثل هذه الحالة ؟

الجواب

الحمد لله.


بر الوالدين من الواجبات المحتمات على الأولاد ، وعقوقهما من المحرَّمات القطعيات ، قال الله تبارك وتعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ) الإسراء/ 23 – 25 .

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده ، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وجعْلُه برَّ الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا : ذَكَرَه في آيات أخر ، كقوله في سورة " النساء " : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، وقوله في البقرة ( وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، وقوله في سورة لقمان : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ، وبيَّن في موضع آخر أن برَّهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما ، كقوله في " لقمان " : ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) ، وقوله في " العنكبوت " : ( وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُم ) الآية .
وذِكْرُه جل وعلا في هذه الآيات برَّ الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته : يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين " انتهى من "أضواء البيان" ( 3 / 85 ) .

ولذا فإن الواجب عليك بر والديْكِ ، والإحسان إليهما ، وبذل النصيحة لهما ، والسعي للتوفيق بينهما ، فإن أصرا على الطلاق ، لم يسقط حق أحدهما في البر مهما كان مخطئا .
وينبغي أن تبين بوضوح لهما أنك مقيم على برهما ، مجتهد في الإحسان إليهما ، تنأى بنفسك عن الميل إلى طرف على حساب الآخر ، وعن سماع الادعاءات والاتهامات التي تقسي قلبك ، وتوغر صدرك ، ولا فائدة من سماعها مع اختيارهما الانفصال .
واعلم أن للأم ثلاثة أضعاف ما للأب من حسن الصحبة ، دون تقصير في حق الأب .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ : ( أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ ) رواه البخاري ( 5626 ) ومسلم ( 2548 ) .
قال النووي رحمه الله : " وفيه الحث على بر الأقارب ، وأن الأم أحقهم بذلك ، ثم بعدها الأب ثم الأقرب ، فالأقرب ، قال العلماء : وسبب تقديم الأم : كثرة تعبها عليه ، وشفقتها ، وخدمتها ، ومعاناة المشاق في حمله ، ثم وضعه ، ثم إرضاعه ، ثم تربيته ، وخدمته وتمريضه ، وغير ذلك ، ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب ، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك ؛ فقال الجمهور بتفضيلها وقال بعضهم يكون برهما سواء ، قال ونسب بعضهم هذا إلى مالك ، والصواب : الأول ؛ لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور والله أعلم" انتهى من "شرح مسلم" (16/ 102) .

سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : شاب يبلغ الخامسة والعشرين من العمر ، والدي ووالدتي في خصام مستمر طول أيامهما ، إن بررت بالأول : غضب ونفر الثاني ، إن بررت الثاني : غضب الأول ، واتهمني بالعقوق ، ماذا أفعل يا فضيلة الشيخ لكي أبرهما ؟ وهل أعتبر عاقّاً بالنسبة لأمي بمجرد أنني بررت بأبي أو العكس ؟
فأجاب : " الإجابة على هذا أن نقول : إن بر الوالدين من أوجب الواجبات التي تجب للبشر على البشر ؛ لقول الله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) ، وقوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ، وقوله تعالى ( إن اشكر لي ولوالديك إلى المصير ) ، والأحاديث في هذا كثيرة جدّاً ، والواجب على المرء أن يبر والديه كليهما : الأم والأب ، يبرهما بالمال ، والبدن ، والجاه ، وبكل ما يستطيع من البر حتى إن الله تعالى قال : ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) ، فأمر بمصاحبة هذين الوالدين المشركين اللذين يبذلان الجهد .. في أمر ولدهما بالشرك ومع ذلك أمر الله أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً ، وإذا كان ذلك كذلك : فالواجب عليك نحو والديك اللذين ذكرت أنهما في خصام دائم ، وأن كل واحد منهما يغضب عليك إذا بررت الآخر ، الواجب عليك أمران :
الأول : بالنسبة للخصام الواقع بينهما : أن تحاول الإصلاح بينهما ما استطعت ، حتى يزول ما بينهما من الخصام والعداوة والبغضاء ؛ لأن كل واحد من الزوجين يجب عليه للآخر حقوق لابد أن يقوم بها ، ومن بر والديك أن تحاول إزالة هذه الخصومات حتى يبقى الجو صافياً ، وتكون الحياة سعيدة .
وأما الأمر الثاني : فالواجب عليك نحوهما أن تقوم ببر كل واحد منهما ، وبإمكانك أن تتلافى غضب الآخر إذا بررت صاحبه بإخفاء البر عنه ، وتبر أمك بأمر لا يطلع عليه والدك ، وتبر والدك بأمر لا تطلع عليه أمك ، وبهذا يحصل المطلوب ، ولا ينبغي أن ترضى ببقاء والديك على هذا النزاع ، وهذه الخصومة ، ولا على هذا الغضب إذا بررتَ الآخر ، والواجب عليك أن تبين لكل واحد منهما أن بر صاحبه لا يعنى قطيعته ، أي : قطيعة الآخر بل كل واحد منهما له من البر ما أمر الله به " انتهى من "فتاوى إسلامية" (4/ 196) .
وإذا أصر الوالدان على هذه الخصومة ، فالذي نراه أن تعرض عن الدخول فيها من الأصل ، خاصة وأنك نصحتهما من البداية .
زادك الله برا وتوفيقا ، وهدى والديك وأصلح حالهما .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب