الحمد لله.
تنوعت عبارات العلماء في معنى كلمة " سُورة " ، ومم اشتُقت ؟
فقال القرطبي رحمه الله في "تفسيره" (1/ 65-66) :
" مَعْنَى السُّورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : الْإِبَانَةُ لَهَا مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى ، وَانْفِصَالِهَا عَنْهَا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأنه يرتفع فيها من مَنْزِلَةٍ إلى مَنْزِلَةٍ . قَالَ النَّابِغَةُ :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
أي : منزلة شرف ، ارتفعت إليها عن منزل الملوك .
وقيل : سميت لِشَرَفِهَا وَارْتِفَاعِهَا ، كَمَا يُقَالُ لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ سُورٌ.
وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ قَارِئَهَا يشرف على ما لم يكن عنده ، كسور البناء بغير همزة .
وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهَا قُطِعَتْ مِنَ الْقُرْآنِ على حد ، من قول العرب للبقية : سؤر، وجاء : أَسَآرِ النَّاسِ ، أَيْ : بَقَايَاهُمْ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَصْلُ : سُؤْرَةً ، بِالْهَمْزَةِ ، ثُمَّ خُفِّفَتْ ، فَأُبْدِلَتْ وَاوًا لانضمام مَا قَبْلَهَا.
وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلنَّاقَةِ التَّامَّةِ : سُورَةٌ .
وَجَمْعُ سُورَةٍ سُوَرٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى سُورَاتٍ وَسُوَرَاتٍ " انتهى .
وذكره نحوه ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/ 16) .
وانظر :
" النكت في القرآن الكريم "(ص 354) - لأبي الحسن القيرواني .
" أحكام القرآن "(3/ 331) - لابن العربي .
" لسان العرب " (4/ 386) - لابن منظور .
" تهذيب اللغة "(13/ 36)- للأزهري .
" الصحاح " (2/ 690)- للجوهري .
فمؤدى المعنى المجموع من كلام العلماء المتقدم : أن السورة من القرآن هي مجموعة من الآيات الكريمة ، منفصلة عن غيرها من آيات القرآن ، محفوظة مصونة من الزيادة أو النقصان أو التبديل أو التحريف ، وقارئ سور القرآن ينزل بتلاوته منازل الشرف والكرامة ، وينتقل بتلاوته سور القرآن من منزلة إلى منزلة ، ويقال له يوم القيامة : ( اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) رواه أبو داود (1464) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
والواقع أن أمر الاختلاف في
الاشتقاق قريب ، وهي مسألة علمية يعرفها أهل اللغة ، لكن بعد أن يستقر في علم
المكلف من ذلك كله : أن تسمية مجموعة محددة من آيات القرآن : سورة ؛ تسمية شرعية
توقيفية ، ثبتت في القرآن نفسه .
قال العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، رحمه الله :
" وَتَسْمِيَةُ الْقِطْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ عِدَّةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ سُورَةٌ
مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ ، وَشَاعَتْ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ
حَتَّى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ ، فَالتَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ) [هود: 13] ، وَقَوْلِهِ : ( فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) [الْبَقَرَة: 23] ، لَا يَكُونُ إِلَّا تَحَدِّيًا
بِاسْمٍ مَعْلُوم المسمّى والمدار عِنْدَهُمْ وَقْتَ التَّحَدِّي ، فَإِنَّ آيَاتِ
التَّحَدِّي نَزَلَتْ بَعْدَ السُّوَرِ الْأُوَلِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ سُورَةِ النُّورِ بِاسْمِ : سُورَةٍ ، فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النُّور:1] أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ .
وَقَدْ زَادَتْهُ السُّنَّةُ بَيَانًا.
وَلَمْ تَكُنْ أَجْزَاءُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ مُسَمَّاةً
سُوَرًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَلَا فِي الْإِسْلَامِ..".
وذكر الخلاف في اشتقاق السورة ، بنحو ما تقدم ، ثم قال :
" وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ
أَنَّهُمْ تَرَدَّدُوا وَلَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ سُوَرِهِ ، وَأَنَّهَا مِائَةٌ
وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً ، رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَتِ
الْآيَةُ يَقُولُ : ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا .
وَكَانَتِ السُّوَرُ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَحْفُوظَةً عَنْهُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ ، وَفِي
عَرْضِ الْقُرْآنِ ..." انتهى من "التحرير والتنوير" (1/84-86) .
راجع للفائدة جواب السؤال
رقم : (131664) .
والله تعالى أعلم .
تعليق