الثلاثاء 7 شوّال 1445 - 16 ابريل 2024
العربية

لماذا كان إلقاء المؤمن نفسه في نار الدجال مأموراً به ولا يعد انتحاراً ؟

214731

تاريخ النشر : 06-06-2014

المشاهدات : 16137

السؤال


ذكرتم أنه يمكن الكذب بخصوص الدين ، إذا كان المرء يخاف على نفسه ، لكن ماذا لو اختار المرء الموت ، كما فعل بعض الصالحين في الماضي كماشطة بنت فرعون التي ضحت بنفسها وأبنائها من أجل دينها ؟ وهل يُعتبر ذلك انتحاراً ؟ وسمعت بعض العلماء الثقات يقولون : إن الدجال سيحكم العالم ، وإن على المؤمن أن يفر منه إلى مدينة أخرى ، فإن كان ولا بد من المواجهة ، فليواجه وليعلم أن الدجال له نار وجنة ، وأن ناره جنة ، وجنته نار، وأن على المؤمن أن يقفز في ناره كي يدخل الجنة الحقيقية . وهنا يأتي التساؤل : أليس هذا انتحارا ، والانتحار محرم في الإسلام ؟ لقد أشرتم إلى هذا المفهوم في بعض الفتاوى ، وقلتم إن الانتحار محرم بجميع أشكاله في الإسلام ، فلماذا جاز هنا ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
يجوز للمسلم أن يظهر دينه ، ويصدع بالحق ولو أدى ذلك إلى قتله ، ولا يعدّ هذا انتحارا ؛ فالانتحار أن يباشر هو قتل نفسه ، أو يتسبب في ذلك بسبب غير مشروع ؛ لكنه هنا ثبت على دينه ، وأظهر كلمة التوحيد ، وليس في هذا قتلا للنفس ، بل الكفار هم الذين باشروا قتله ، والسبب الذي فعله ، وهو الثبات على دينه ، والصبر على أذى الكفار : سبب مشروع مطلوب ، إما وجوبا أو ندبا ، وليس هذا من قتل النفس في شيء .
بل هذا حاله كحال المجاهد في سبيل الله ، الذي يصبر على قتال الكفار ، إعلاء لدين الله ، كما أمره الله بذلك ، وإن كان فيه قتل نفسه ، وذهاب ماله ، إلا أنه لم يباشر هو قتل نفسه ، بل هو قام بما أمره الله من العبودية المشروعة ، إما وجوبا ، وإما ندبا ، وإن ترتب على ذلك : قتل نفسه ، وذهاب ماله .
عن خَبَّاب قال : " أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً ، وَهْوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ - وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً - فَقُلْتُ يا رسول الله ، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لنا ؟ فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: ( لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ . وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ ) . زَادَ بَيَانٌ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ . رواه البخاري (3852 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم ذلك ، آمرا لهم بالصبر على أذى الكفار، وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا ، كما قتلوا المؤمنين صبرا ؛ ومدحا لمن يصبر على الإيمان حتى يقتل " .
انتهى من " قاعدة في الانغماس في العدو " ( ص 79 ) .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 150748 ) .
ثانيا :
حديث الدجال المشار إليه ، هو حديث رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ : " قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو لِحُذَيْفَةَ : أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ : ( إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا ، فَأَمَّا الَّتِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ فَمَاءٌ بَارِدٌ ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ ، فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ ) رواه البخاري ( 3450 ) .
ورواه مسلم (2934 ) عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَنَّهُ قَالَ ، فِي الدَّجَّالِ: ( إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا . فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ ، وَمَاؤُهُ نَارٌ . فَلاَ تَهْلِكُوا ) .
فالمسلم أُمِر أن يختار نار الدجال ، لأنّ فيها نجاته ، وفي جنة الدجال الهلاك ، فلهذا كان اختيار المسلم لنار الدجال اختيارا للنجاة ، وليس هذا من الانتحار في شيء .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي ، فإما أن يكون الدجال ساحرا ، فيخيل الشيء بصورة عكسه ، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا وباطن النار جنة ، وهذا الراجح‏‏ " انتهى من " فتح الباري " ( 13 / 99 ) .
فتبين بذلك أن ما يتوهمه الناس نارا مهلكة مع الدجال ، فإنها ليست مهلكة للمؤمن ، بل فيها نجاته ، كما أمره الله ، وتبين أن اختيارها : هو اختيار النجاة ، وليس اختيارا للهلاك ، ولا قتلا للنفس ، كما توهم السائل .
وإذا قدر أن فيها قتلا للنفس ، فإنما هذا من باب تقديم هلاك النفس ، على ضياع الدين ، والكفر بالله ، وقد قال الله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) البقرة/191 ، وقال تعالى أيضا : ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) البقرة/217 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالرَّبِيعُ ابن أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يَقُولُ: الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " .
انتهى من " تفسير ابن كثير " (1/525).
وقال أيضا :
" وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أَيْ: قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ فَذَلِكَ أَكْبَرُ عند الله من القتل " انتهى من " تفسير ابن كثير" (1/576) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَإِن كَانَ قتل النُّفُوس فِيهِ شَرّ فالفتنة الْحَاصِلَة بالْكفْر، وَظُهُور أَهله أعظم من ذَلِك فَيدْفَع أعظم الفسادين بِالْتِزَام أدناهما " انتهى من " جامع الرسائل " (2/142) .
وقال شيخ الإسلام أيضا :
" ومن هذا الباب : الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم ، والذي يتكلم بالكفر بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان ، بمنزلة المستأسِر للعدو.
فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء ، كَان بمنزلة المجاهد ابتداء.
فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر ، كان هو الأفضل.
وقد يكون واجبًا : إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب ، وغلبة الكفر عليها ، وهي الفتنة ، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل ، فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل ، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه تَرَجَّح القتل : واجبًا تارةً ، ومُستحبًّا أُخرى.
وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك" انتهى من " جامع المسائل " (5/329) .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب