الخميس 9 شوّال 1445 - 18 ابريل 2024
العربية

فتنة الشيطان حال الاحتضار

السؤال


هل صحيح أن الشيطان قد يحضر الإنسان عند الاحتضار ، حتى يموت الإنسان كافرا وإن كان عمل طول حياته بعمل أهل الجنة ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
ذكر الله في كتابه الكريم قسم إبليس اللعين وتوعده بني آدم بالإضلال والغواية ، وأنه ماض في ذلك إلى يوم القيامة ، لا يترك سبيلا إلا سلكه في سبيل ملء جهنم من ذرية آدم عليه السلام ،
قال تعالى : ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ، وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف/16-17 .
يقول ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (5/445) :
" معناه : ثم لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل ، فأصدهم عن الحق ، وأُحَسِّنُ لهم الباطل " انتهى .
والشيطان يحاول أن يستغل مواطن الضعف ، فإذا وجد البلاء قد اشتد على المؤمن ، والكرب قد استحكم ، فإنه يدخل في طريقه ليفسد عليه إيمانه ، فيكون من أهل النار .
ولا شك أن حال الاحتضار حال كرب وشدة ، فسكرات الموت أمرها عظيم وشديد ، وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم منها الشيء العظيم ، حتى كان يقول صلى الله عليه وسلم :( إِنَّ لِلمَوتِ لَسَكَرَاتٍ ) رواه البخاري (4449) .
ولما عرفت ابنته فاطمة ما يلقاه من شدة قالت : ( وَاكَربَ أَبَاه ) رواه البخاري (4461) .

والمظنون أن الشيطان لن يُفَوِّت ابن آدم في هذه الحال ، فهي فرصة له .
عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إِنَّ الشَّيطَانَ يَحضُرُ أَحَدَكُم عِندَ كُلِّ شَيْءٍ مِن شَأنِهِ ) رواه مسلم (2033) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال) : قال إبليس : وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) .رواه أحمد (10974) ، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب " (1617) .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يسأل الله تعالى ألا يسلط عليه الشيطان عند الموت ، لِيُعَلِّمَ المسلمين الحرص على السلامة من فتنة الشيطان .
عن أبي اليسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو :
( الَّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَدمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَرَدِّي ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الغَرَقِ وَالحَرَقِ وَالهَرَمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَن يَتَخَبَّطَنِي الشَّيطَانُ عِندَ المَوتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَن أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدبِرًا ، وَأَعُوذُ بِكَ أَن أَمُوتَ لَدِيغًا ) رواه أحمد (3/427) ، وأبو داود (1552) وسكت عنه ، والنسائي (5531) ، وقال الحاكم في المستدرك (1/713) : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال في "عون المعبود" (4/287) :
" ( أن يتخبطني الشيطان ) أي : إبليس أو أحد أعوانه ، قيل : التخبط الإفساد ، والمراد إفساد العقل والدين ، وتخصيصه بقوله ( عند الموت ) ؛ لأن المدار على الخاتمة .
وقال القاضي : أي من أن يمسني الشيطان بنزغاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأوهام .
قال الخطابي : استعاذته عليه الصلاة والسلام من تخبط الشيطان عند الموت ، هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا ، فيضله ويحول بينه وبين التوبة ، أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قِبَله ، أو يؤيسه من رحمة الله تعالى ، أو يكره الموت ويتأسف على حياة الدنيا ، فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء ، والنقلة إلى دار الآخرة ، فيختم له بسوء ، ويلقى الله وهو ساخط عليه .
وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن ادم منه في حال الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم .
نعوذ بالله من شره ، ونسأله أن يبارك لنا في ذلك المصرع ، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه " انتهى .

وفتنة الشيطان في تلك الساعة فتنة شديدة ، لما يكون عليه المسلم من تعب وكرب ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها في دعائه في كل صلاة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُم فَليَستَعِذ بِاللَّهِ مِن أَربَعٍ : يَقُولُ : الَّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِن عَذَابِ القَبرِ ، وَمِن فِتنَةِ المَحيَا وَالمَمَاتِ ، وَمِن شَرِّ فِتنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ ) رواه البخاري (1377) ، ومسلم (588) .
يقول ابن حجر في "فتح الباري" (2/319) :
" قال ابن دقيق العيد : فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات ، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ، وفتنة الممات : يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت ، أضيفت إليه لقربها منه ، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك ، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر " انتهى .
ثانيا :
فتنة الشيطان للمسلم حال الاحتضار تكون بالوسوسة ، كما هي في حال الحياة .
ولكن هل ثبت في السنة ما يدل على أن الشيطان يتمثل بصورة أحب الناس لهذا المحتضَر ، فيدعوه إلى النصرانية أو اليهودية ؟
ذكر ذلك بعض أهل العلم في كتبهم :
قال القرطبي في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (29-30) :
" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان ، الواحد عن يمينه والآخر عن شماله ، فالذي عن يمينه على صفة أبيه ، يقول له : يا بني ! إني كنت عليك شفيقاً ولك محباً ، ولكن مت على دين النصارى فهو خير الأديان ، والذي على شماله على صفة أمه ، تقول له : يا بني ! إنه كان بطني لك وعاء ، وثديي لك سقاء ، وفخذي لك وطاء ، ولكن مت على دين اليهود وهو خير الأديان .
ذكره أبو الحسن القابسي في "شرح رسالة ابن أبي زيد" له ، وذكر معناه أبو حامد في كتاب " كشف علوم الآخرة " .
وما ذكره القرطبي ليس عليه دليل من الكتاب أو السنة ، إذ لم يثبت حديث في ذلك ، إنما هي روايات يتناقلها بعض أهل العلم في كتبهم ، ليست موجودة في كتب الحديث المعتمدة .
قال الألباني في " السلسلة الضعيفة والموضوعة " ( 3/645) :
قال السيوطي : لم أقف عليه في الحديث " انتهى .
فلا يجوز نسبة ذلك إلى الشرع ، ولا يجوز تخويف الناس به ، ولا القول بأن تمثل الشيطان عند الموت لازم لكل أحد ، فإن الشرع لم يأت بذلك ، إنما الثابت هو الوسوسة ومحاولة الإغواء للتسخط على القدر من شدة الكرب .
وإذا كان ذلك لم يثبت في حديث ، فإننا أيضا لا نستطيع أن ننفيه ، فإن للشيطان حيلا كثيرة ، وطرقا عديدة ، وهو قادر على حضور الإنسان بصور شتى ، وقد يقع ذلك لبعض الناس عند الموت .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (4/255) :
عن عرض الأديان عند الموت ، هل لذلك أصل فى الكتاب والسنة أم لا ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين :
أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرا عاما لكل أحد ، ولا هو أيضا منتفيا عن كل أحد ، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته ، ومنهم من لا تعرض عليه ، وقد وقع لأقوام ، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التى أمرنا أن نستعيذ منها فى صلاتنا ... ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم ؛ لأنه وقت الحاجة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( الأَعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا ) ، وقال : ( إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ فَيَدخُلهَا ، وَإِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ فَيَدخُلُهَا ) [ رواه البخاري (3208) ومسلم (2643)] .
ولهذا روي : أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ! فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدا .
وحكاية عبدالله بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول : ( لا بَعدُ ، لا بَعدُ ) مشهورة " انتهى .

وقد وقع ذلك لبعض الصالحين :
يقول القرطبي رحمه الله "التذكرة" (30) :
" قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حضرت وفاة أبي ـ أحمد ـ وبيدي الخرقة لأشد لحييه ، فكان يعرق ثم يفيق ويقول بيده : لا بعد ، لا بعد . فعل هذا مراراً !! فقلت له : يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال : إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فُتَّنِي ، وأنا أقول : لا بعد ، لا حتى أموت .
قلت : وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول : حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر . فقيل له : قل : لا إله إلا الله ، فكان يقول : لا . لا . فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال : أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي . يقول أحدهما : مت يهودياً فإنه خير الأديان ، والآخر يقول : مت نصرانياً فإنه خير الأديان ، فكنت أقول لهما : لا ، لا " انتهى .

ثالثا :
إذا عرف المسلم عظم أمر فتنة الممات عند الاحتضار ، وأنه على موعد مع كرب عظيم ، استعد لذلك اليوم ، وتزود من العمل الصالح ، ورجى أن يكتب الله له حسن الخاتمة ، فإن الله تعالى يحمي عبده المؤمن ، وإذا رأى منه صدق القلب والمحبة ، عصمه من المزلة ، وصرف عنه الغواية ، فلا يظنن أحد السوء بالله تعالى ، فهو عدل كريم ، لا يخذل عبده المؤمن ، وحرم على نفسه الظلم ، فلا تجد ، إن شاء الله ، من يفتنه الشيطان في مثل هذه المواقف إلا من كان معرضا عن الله ، ومقبلا على الشيطان ، فذلك هو الذي يتخبطه الشيطان عند الموت ، كما تخبطه في الحياة .
يقول ابن القيم في "الجواب الكافي" (62) :
" فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره ، واتبع هواه وكان أمره فرطا ، فَبَعِيدٌ مَن قَلبُه بعيد من الله تعالى ، غافل عنه ، مُتَعَبَّدٌ لهواه ، مُسَيَّرٌ لشهواته ، ولسانه يابس من ذكره ، وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصية الله ، أن يوفق لحسن الخاتمة " انتهى .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب