الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

قضايا في علوم المصطلح والتخريج

242805

تاريخ النشر : 01-08-2016

المشاهدات : 7919

السؤال


ذكر أحد علماء التصحيح والتضعيف طريقته في نقد الحديث حيث قال: " أحاديث السنن: إما أن تكون في البخاري أو مسلم ، أو في غيرهم من كتب الحديث: فإن كانت في غير صحيحي البخاري ومسلم يجب التحقق من صحتها . فلو ضعفت حديثًا ما فإني أذكر سبب تضعيفي له . وإن صححت الحديث فإنني أذكر من سبقني إلى تصحيح هذا الحديث. وفي حال الاختلاف فيما إن كان أحد الرواة ثقة أم لا، فإنه يستحيل تطبيق قاعدة واحدة لا تتغير للتوفيق بين الآراء المختلفة. ولذلك فأنا أفضل قول الجمهور في مثل هذه الحالات. ولو قام أحد العلماء ممن يعرف عنهم التساهل ، مثل الترمذي، وابن حبان، والحاكم، بتوثيق أحد الرواة ، فإنني أعتبر الراوي من المجاهيل. ولكن لو وثقه اثنان منهم فإني أعتبره صدوقا. وعند تصحيح أو تضعيف الحديث آخذ بعين الاعتبار الشواهد والمتابعات". وقد اعترض بعض الناس على هذه الطريقة، وقالوا : إنها طريقة مبتدعة ، فما رأيكم؟

الجواب

الحمد لله.


تشتمل هذه الفقرة على مجموعة من المباحث النقدية المتعلقة بعلوم الحديث الشريف، نوردها هنا تباعا مع التعليق عليها باختصار:
أولا:
الحديث الذي ينفرد به أصحاب السنن والمسانيد عن صحيحي البخاري ومسلم لا بد من التفتيش في ثبوته وإسناده صحة أو ضعفا، ذلك أن هذه الكتب لم تشترط الصحة فيما ترويه من الأحاديث، وإنما صنفها مؤلفوها العظام لأجل تخريج الأحاديث على أبواب الدين والفقه، أو جمع مسانيد الصحابة ومروياتهم في مكان واحد. ومع ذلك فكثير منها تشتمل على أحكام نقدية خاصة بما ترويه من أحاديث، فالإمام الترمذي مثلا يعتني بذكر درجة الحديث، وكذلك الإمام أبوداود، والنسائي ينتقي في سننه ويحسن الانتقاء، حتى عُدَّ أصحَّ كتب السنن. وهكذا تراعَى في تخريج الحديث من كتب السنن هذه الاعتبارات.
أما إذا كان الحديث مخرجا في الصحيحين : فقد جاوز القنطرة، وتُلقي بالقبول والتسليم، لكن مع ضرورة عناية الباحث المختص في هذا الشأن : بجمع ألفاظ الحديث وطرقه، فقد كان من منهج البخاري رحمه الله تفريق الحديث الواحد في العديد من المواضع، كثيرا ما تختلف بينها الألفاظ، كما تتعدد الطرق، وكذلك كان الإمام مسلم رحمه الله يكثر من إيراد المتابعات، ولكن يجمعها في سياق واحد مع أصل الحديث، ودور الباحث المتخصص هنا هو العناية باختلاف الألفاظ وتعدد الطرق، والتأمل فيما يمكن النظر فيه من تأثير هذا الاختلاف على محل الشاهد من الحديث، ومنهجية دراسة هذا الاختلاف.
يقول مغلطاي رحمه الله:
"ليس لحديثي ٍّعزوُ حديثٍ في أحد الستة لغيرها : إلا لزيادة ليست فيها، أو لبيان سنده ورجاله" انتهى نقله عن كتاب "فيض القدير" (1/280) للمناوي.

ثانيا:
لا يقبل من الباحث أن يضعف الحديث دون أن يحيل على سبب الضعف، ودون أن يبين موطن التعليل، فالتضعيف حكم بحثي نقدي لا يقبل إلا بدليل.
وكذلك الحكم بالقبول والتصحيح، يبين الحاكم بألفاظ جامعة مجملة ، موجب هذا التصحيح، كي يؤكد للقارئ أنه تحقق فعلا من هذه الشروط، وأنه على وعي وتنبه لما يمكن أن يعل به الحديث، فيقرر مثلا أن السند وإن اشتمل على مدلس، فقد صرح بالتحديث في هذا المثال، أو ينبه القارئ على أن التصحيح أو التحسين كان لتعدد الطرق والمتابعات، أو أن الراوي الفلاني وإن طعن فيه بعض النقاد إلا أن قبوله كان لأسباب محددة يبينها، وهكذا لا يخلي القارئ من الخلاصات العلمية التي تمثل مبادئ هذا العلم الشريف، وتبني عقليته المنهجية.

وحين يعزز أحكامه بالتضعيف أو بالتصحيح بالنقل عن المحدثين السابقين، فإنه بذلك يؤكد النتيجة التي توصل إليها، أو يكشف عن اسم العالم الذي قلده في حكمه، فيبرئ ساحته، ويعزز صواب منهجه ودراسته، ويضفي على حكمه قدرا كبيرا من الثقة والاعتبار والاعتماد، فأسماء النقاد الأوائل مناطٌ هام من مناطات الوثوقية العلمية.
يقول الإمام السخاوي رحمه الله:
"التخريج: إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه ، أو بعض شيوخه ، أو أقرانه أو نحو ذلك، والكلام عليها، وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين، مع بيان البدل والموافقة ونحوهما.
وقد يتوسع في إطلاقه على مجرد الإخراج والعزو" انتهى من "فتح المغيث" (3/317) .

فالتخريج من فنون الحديث المفصلة والمبينة، يشرح فيها المخرج خلاصة ما توصل إليه في نقد الحديث، ولا يقتصر على العزو المجرد، وهو ما عبر عنه الإمام السخاوي بقوله: "والكلام عليها".

ثالثا:
إذا وقع الاختلاف في الحكم على أحد الرواة بالجرح أو التعديل، فلا بد في هذه الحالة من الدراسة التفصيلية التخصصية، لسبر جميع الاعتبارات الدقيقة التي تعتري أحكام الجرح والتعديل، وليس بالهجوم على قول الجمهور كيفما اتفق:
فكثيرا ما لا يجد الباحث قولا يمكن أن يصنفه على أنه قول الجمهور، لقلة عدد النقاد المتكلمين في هذا الراوي جرحا أو تعديلا، أو لانقسامهم إلى فريقين متعادلين.
وقد لا يتمكن الناقد من تحديد قول الجمهور، نظرا لتنوع عبارات النقاد وتباين أحكامهم.
وقد لا يتمكن الناقد من تحديد قول الجمهور، نظرا لأن العبرة في الأحكام النقدية لا تقاس بالعدد، بل تقاس بمستوى الخبرة التي يتمتع بها هذا الناقد في المجال المعين، فلو اتفق اثنان من كبار أئمة العلل المتقدمين مثلا، فكلمتهم أقوى من كلمة خمسة من النقاد المتأخرين الذين لم يصلوا إلى مرتبتهم في الإمامة والعلم ، وهكذا يغدو اعتبار قول الجمهور العددي – هكذا مطلقا – سببا لمجانبة الصواب في أحيان كثيرة.
وقد يكون الخلاف لفظيا لا يتجاوز تنويع العبارات وترادف الكلمات، ففي هذه الحالة يأخذ الباحث بمضمون كلام الناقد ، متجاوزا الألفاظ والكلمات، ولا تأثير في هذه الحالة لما عليه "الجمهور".
ثم قد يكون "الجمهور العددي" في حالة أحد الرواة : من الموسومين بالتساهل أو بالتشدد، وحينئذ يقدم عليهم قول المعتدل أو المتوسط من النقاد.
وهكذا في تفاصيل كثيرة، لا بد من مراعاتها جميعها، الأمر الذي يقتضي دراسة مفصلة لعلم "ضوابط الجرح والتعديل"، والتنقيب في المصنفات التي صنفت في هذا العلم المهم جدا لكل باحث في علم الحديث.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله:
"اعلم هداك الله أن الذين قَبِلَ الناسُ قولَهم في الجرح والتعديل ... على ثلاثة أقسام:
1 - قسم منهم في الجرح متثبت في التعديل ، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، فهذا إذا وثق شخصا : فعض على قوله بناجذيك، وتمسك بتوثيقه.
وإذا ضعف رجلا : فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ؟ إن وافقه ولم يوثق ذلك أحد من الحذاق : فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه : لا يُقبل تجريحه إلا مفسرا، يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلا: هو ضعيف، ولم يوضح سبب ضعفه ، وغيره قد وثقه، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب.
وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متعنتون.
2 - وقسم في مقابلة هؤلاء كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي، متساهلون.
3 - وقسم كالبخاري، وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وابن عدي : معتدلون ومنصفون" انتهى من "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل/ مطبوع ضمن أربع رسائل" (ص/171-172) .

رابعا:
أما انفراد الترمذي، أو ابن حبان، أو الحاكم، بتوثيق الراوي فلا يمكن إلغاؤه، بل لا بد من اعتباره توثيقا كافيا في أحوال عديدة:
فالترمذي قريب إلى الاعتدال والتوسط في توثيق الرواة والحكم عليهم، بل نفى كثير من الباحثين المعاصرين وصفَ "التساهل" عنه، كما قرره د. الجديع في "تحرير علوم الحديث" (2/862).

وأما ابن حبان فوصفه بالتساهل لا ينبغي أخذه على إطلاقه، فهو تساهل خاص فيمن ذكرهم في كتابه "الثقات" ذكرا مجردا من المقلين من الحديث من غير شيوخه، فهؤلاء فقط هم من يصدق على ابن حبان وصفه بالتساهل فيهم، أما غيرهم فتوثيقه معتبر لدى العلماء، وقد فصل العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله (1386هـ) مراتب كلام ابن حبان في توثيق الرواة فقال:
" التحقيق أن توثيقه على درجات:
الأولى: أن يصرح به، كأن يقول: كان متقنا أو مستقيم الحديث أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم.
والثانية قريب منها.
والثالثة مقبولة.
والرابعة صالحة.
والخامسة لا يؤمن فيها الخلل" انتهى من "التنكيل" (2/669) .

ولهذا فليست قاعدة صحيحة تلك التي تهمل توثيق كل من الترمذي وابن حبان مطلقا عند انفرادهما، أو تعتد بتوثيقهما مطلقا عند اجتماعهما، بل في الأمر تفصيل دقيق لا بد من مراعاته.
يقول الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: " اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد، أو لا بد من اثنين؟
فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين، كما في الجرح والتعديل في الشهادات.
ومنهم من قال - وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره - أنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات" انتهى من "مقدمة ابن الصلاح" (ص109) .

خامسا:
أما التصحيح والتحسين بالمتابعات والشواهد فأصله مقرر في كتب علوم الحديث الأولى، من ذلك قول ابن الصلاح رحمه الله: "أي ذلك وجد : يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه، وإلا فلا...
ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به" انتهى من "مقدمة ابن الصلاح" (ص/83-84) .

غير أن هذا الموضوع – نعني التصحيح بالمتابعات والشواهد – من أدق قضايا علوم الحديث والتخريج، ولا بد فيها من التأمل في مناهج المحدثين، وضوابط التصحيح، ومزالق المتأخرين خاصة في هذا الباب. ينظر كتاب "نظرية الاعتبار عند المحدثين" د. منصور الشرايري ، وكتاب "الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات"، طارق بن عوض الله.
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب