الحمد لله.
" حم لا ينصرون " كانت شعار المسلمين في إحدى المعارك ، وذكر بعض العلماء أن ذلك في الخندق ، كما في " جوامع السيرة " لابن حزم (ص/189)، ومعنى كونها شعارا أي أن الصحابة رضوان الله عليهم يتعرفون إلى بعضهم – في حال القتال بالليل – بواسطة هذه الكلمة ، فإذا سمع أحدهم من الآخر قوله : " حم لا ينصرون " عرف أنه من أصحابه وليس من أعدائه ، وهكذا هي الحروب المعاصرة أيضا ، يتفق فيها الجنود على كلمات سرية وحروف رمزية يعرفون بعضهم بها .
عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( إِنْ بُيِّتُّمْ فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ حم لَا يُنْصَرُونَ )
رواه أبو داود (رقم/2599) وبوَّب عليه بقوله : باب في الرجل ينادي بالشعار . وقال ابن كثير: إسناده صحيح . " تفسير القرآن العظيم " (7/117)، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/3097).
وليس في هذا الحديث دلالة على استحباب الدعاء بهاتين الكلمتين : " حم لا ينصرون " عند طلب النصر ، يؤكد ذلك ما يلي :
1- أن معنى الشعار هو العلامة المتعارفة في الحرب ، يقول الشوكاني رحمه الله : "الغرض بالشعار - وهو العلامة في الحرب - يقال : نادوا بشعارهم . أو جعلوا لأنفسهم شعارا ، والمراد أنهم جعلوا العلامة بينهم لمعرفة بعضهم بعضا في ظلمة الليل ، هو التكلم عند أن يهجم عليه العدو بهذا اللفظ " انتهى. " نيل الأوطار " (8/50)، ولذلك بوب البيهقي في " السنن الكبرى " (6/361) على هذه الأحاديث بقوله : " باب ما جاء في شعار القبائل ونداء كل قبيلة بشعارها " انتهى. وقال البهوتي رحمه الله : " ( ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب ) لما روى سلمة بن الأكوع قال : ( غزونا مع أبي بكر زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان شعارنا: أمت أمت ) رواه أبو داود ، وقد ورد أيضا : ( حم لا ينصرون ) ; ولأن الإنسان ربما احتاج إلى نصرة صاحبه ، وربما تهتدي بها إذا ضل ، قال في الشرح : ولئلا يقع بعضهم على بعض " انتهى. " كشاف القناع " (3/64-65) فتحصل من هذا أن الشعار لا يعني الدعاء ، ولا يقصد به استنزال النصر من الله ، وإنما هو علامة فارقة بين الطائفتين المتقاتلتين .
2- وقد ورد اتخاذ المسلمين شعارات أخرى في معارك أخرى ، ومن ذلك : عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : ( كَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ عَبْدُ اللَّهِ وَشِعَارُ الأَنْصَارِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ) رواه أبو داود (2597)، وعن سلمة قَالَ : ( غَزَوْنَا مَعَ أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنه زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ شِعَارُنَا : أَمِتْ أَمِتْ ) رواه أبو داود (رقم/2598)، وروى ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/716) آثارا أخرى فيها جمل كثيرة من الشعارات التي كان الصحابة يتخذونها في معاركهم .
3- وأما ما يرد في بعض كتب " الأوراد " من أدعية خاصة للنصر ، وتذكر فيها هذه الجملة ( حم ، حَمِيَ الأمرُ ، وجاء النصر ، فعلينا لا ينصرون ) فلم يصح في ذلك حديث ولا أثر ، وما جاء عن الصحابي الجليل أبي دجانة رضي الله عنه في هذا الشأن فلم يثبت . يقول البيهقي رحمه الله : " وقد روي في حرز أبي دجانة حديث طويل ، وهو موضوع لا تحل روايته ، والله تعالى أعلم بالصواب " انتهى. " دلائل النبوة " (8/188)
قال الإمام النووي رحمه الله :
فيتحصل مما سبق أنه لا يشرع الدعاء بهاتين الكلمتين ( حم لا ينصرون ) لغرض استنزال النصر من الله عز وجل .
ولكن يبقى السؤال ، ما معنى هاتين الكلمتين ، ولماذا اختارها النبي صلى الله عليه وسلم لتكون شعارا للمسلمين يوم الخندق ؟
فالجواب : أن كلمات الشعار عادة ما تجمع بين الاختصار والمعاني التي تدفع المجاهدين إلى النصر ، فكان شعار المسلمين في بعض المعارك : ( أَمِت ، أَمِت ) أمر من الموت ، كلمتان قصيرتان وفيهما تشجيع على إماتة الأعداء .
وهكذا ( حم لا ينصرون ): كلمات قليلة ، وفيها تفاؤل بهزيمة الأعداء وتمكين المسلمين منهم، ولا شك أن التفاؤل وعلو الروح الجهادية من أسباب تنزل النصر على الأعداء .
يقول الشوكاني رحمه الله :
" هذا اللفظ فيه التفاؤل بعدم انتصار الخصم ، مع حصول الغرض بالشعار ، وهو العلامة في الحرب ... قوله : ( أمت ، أمت ) أمر بالموت ، وفيه التفاؤل بموت الخصم " انتهى.
" نيل الأوطار " (8/50)
قال النووي رحمه الله :
" وفي الحديث شعاركم حم لا ينصرون قال الأزهري سئل أبو العباس عن قوله حم لا ينصرون فقال معناه والله لا ينصرون الكلام خبر ليس بدعاء رأيته في فصل م ح وقال أبو سليمان الخطابي في معالم السنن في كتاب الجهاد عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال معناه الخبر ولو كان معنا الدعاء لكان مجزوما أي لا ينصروا وإنما هو إخبار كأنه قال والله لا ينصرون وقد روي عن ابن عباس رحمهما الله أنه قال حم اسم من أسماء الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه فإن عامة الوسواس منه ذكره في المهذب هو بضم الميم وفتح الحاء أخرجه أبو داود "
تهذيب الأسماء واللغات النووي مد/3 دار الفكر - (3 / 68) .
تعليق