الحمد لله.
الدعاء من أجلّ العبادات وأفضل القربات ، به يكشف الله الضر ، ويجيب المضطر ، ويرفع البلاء ، ويقضي الحاجات ، ويعين على الطاعات .
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) قَالَ : ( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ) .
رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969)واللفظ له ،وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
ولذلك كان دعاء غير الله عز وجل من الشرك الأكبر ، حيث صرف صاحبه العبادة لغير الله.
وحيث كان الدعاء هو العبادة وجب أن يتأدب الداعي بأدب العبودية لله في دعائه ، ومن جملة تلك الآداب أن لا يعتدي فيه ؛ فإن الله لا يحب المعتدين .
روى أحمد (16354) وابن ماجة (3864) عَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا . فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّ سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَعُذْ بِهِ مِنْ النَّارِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ ) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
ومن الاعتداء فيه أن يثني على الله تعالى بما لم يثن به سبحانه على نفسه ، ولا أثنى به عليه رسوله .
قال ابن القيم رحمه الله :
" ومن الاعتداء في الدعاء أن تعبده بما لم يشرعه ، وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه ؛ فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة ، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب " انتهى من "بدائع الفوائد" (3 /524) .
ومعلوم أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية ، فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه سبحانه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا يتجاوز ذلك .
قال الخازن في تفسيره (3/136) :
" وقوله سبحانه وتعالى : ( فادعوه بها ) يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله . ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ، ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده : أنه يجوز أن يقال : يا جوَاد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي . ويجوز أن يقال : يا عالم ، ولا يجوز أن يقال : يا عاقل " انتهى .
فلا يسوغ أن يقال في الدعاء : " يا عالي " ؛ لأن العالي ليس من أسماء الله تعالى ، وإنما هو العليّ سبحانه ، كما قال في كتابه العزيز : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) البقرة/ 255 ، وقال عز وجل : ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) الحج/ 62
ومن الاعتداء فيه أن يتعهد دعاءً مخترعا يدعو به ، ويجعله وردا له ، يلازمه ملازمة الأوراد الشرعية ، فيؤدي به إلى ترك السنة ، وهجر أدعية الكتاب ، بقدر ما أخذ وانشغل به من الأدعية المخترعة .
وكثيرا ما نجد من هؤلاء من يتعهد دعاء حفظه عن شيخه ، أو قرأه في كتاب فاستحسنه ، فهجر به الدعاء المأثور ، ورغب عن أدعية الكتاب والسنة إلى دعاء محدث مخترع .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يقول : أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه أنه قد أساء وأخطأ ؛ إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار . فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل وتزيين من الشيطان وخلاف للسنة ؛ إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك خيرا إلا دلنا عليه وشرعه لنا ، ولم يدخر الله عنه خيرا ؛ بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة ؛ إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا ؟ .
فأجاب رحمه الله :
" الحمد لله ، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات ، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع ، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء ، وسالكها على سبيل أمان وسلامة ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان ولا يحيط به إنسان ، وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس ، وهي جملة يطول تفصيلها. وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ، ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ؛ بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به ، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله للناس سنة ، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرما لم يجز الجزم بتحريمه ، لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به ... وأما اتخاذ ورد غير شرعي واستنان ذكر غير شرعي : فهذا مما ينهى عنه . ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة ، ونهاية المقاصد العلية ، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (22 /510-511)
وقال القاضي عياض رحمه الله : " أذن الله في دعائه ، وعلَّم الدعاءَ في كتابه لخليقته، وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدعاءَ لأمَّته، واجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلمُ بالتوحيد ، والعلم باللغة ، والنصيحة للأمَّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدلَ عن دعائه صلى الله عليه وسلم ، وقد احتال الشيطانُ للناس من هذا المقام ، فقيَّض لهم قومَ سوء يخترعون لهم أدعيةً يشتغلون بها عن الاقتداء بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " انتهى .
"الفتوحات الربانية" – لابن علان (1/17)
وقال القرطبي رحمه الله :
" فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه ، ولا يقول أختار كذا ؛ فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون " انتهى .
"الجامع لأحكام القرآن" (4 /231)
وقال علماء اللجنة الدائمة :
" فيما ثبت في الوحيين من الأدعية والأذكار غنية عن الأدعية والأذكار المخترعة " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة"(1 / 53)
وخلاصة ما سبق :
أنه لا يجوز لأحد أن يخترع أورادا من الذكر والدعاء ، يحافظ الناس عليها ، بل فيما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني عن اختراع ما سواه ، وفيها الكفاية والهدى .
وأما أن يكون له دعاء يدعو به أحيانا ، من غير أن يجعله وردا ثابتا لنفسه ، أو لغيره ، كما هو الشأن في الأوراد الشرعية ، فهذا لا بأس به ، إلا إذا اشتمل على محظور في اللفظ أو المعنى . مع أنه لو اشتغل بالوارد المأثور لكان فيه حاجته ، مع سلامته من التكلف والآفات.
وفي الدعاء المذكور في السؤال قوله : " أرسل قاضي الفرج ، وأرسل مفاتيحك وأحلل أقفالي" ، وهذا من التكلف السمج الذي لا يناسب مقام التضرع والدعاء ، فضلا عن أن يتخذ وردا ثابتا.
وأيضا : ففي هذا الدعاء تكلف السجع ، وقد روى أبو يعلى في "مسنده" (4475) بسند صحيح عن مسروق : أن عائشة قالت للسائب : ثلاث خصال لتدعهن أو لأناجزنك . قال : وما هي ؟ قالت : " إياك والسجع ، لا تسجع ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يسجعون" .
فأين ذلك كله من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عند الكرب ؛ وقد مر بيانه في جواب السؤال رقم (5112) .
وراجع لآداب الدعاء جواب السؤال رقم : (36902)
وينظر كتاب : "فقه الأدعية والأذكار" (2 /64-56)
والله تعالى أعلم .
تعليق