الحمد لله.
أولاً:
منع بعض العلماء من القنوت في الوتر ، والصواب : ثبوت ذلك ؛ لفعل بعض كبار الصحابة الأجلاء له في رمضان ، بل وفي غير رمضان أيضا.
قال محمد بن نصر المروزي – رحمه الله - :
عن الأسود صحبتُ عمرَ – يعني : ابن الخطاب - ستة أشهر ، فكان يقنت في الوتر .
وكان عبد الله – يعني : ابن مسعود - يقنت في الوتر السنة كلها .
وعن علي – يعني : ابن أبي طالب - : أنه كان يقنت في رمضان كله ، وفي غير رمضان في الوتر .
" مختصر قيام الليل ورمضان والوتر " ( ص 314 ) .
ومنع بعض من أجاز القنوت من رفع اليدين
فيه ، ولكنَّ الصواب : أن الرفع في الوتر صحيح ثابت ، إما بالقياس الصحيح على قنوت
النوازل أو بفعل الصحابة الأجلاء له .
قال البيهقي - رحمه الله - :
إن عدداً من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت ، مع ما رويناه عن أنس
بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
" السنن الكبرى " ( 2 / 211 ) .
وقال محمد بن نصر المروزي – رحمه الله - :
سئل أحمد عن القنوت ، في الوتر قبل الركوع أم بعده ؟ وهل ترفع الأيدي في الدعاء في
الوتر ، فقال : القنوت بعد الركوع ، ويرفع يديه ؛ وذلك على قياس فعل النبي صلى الله
عليه وسلم في القنوت في الغداة .
وبذلك قال أبو أيوب ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، رحمهم الله .
" مختصر قيام الليل ورمضان والوتر " ( ص 318 ) .
وهو قول علماء اللجنة والشيخ العثيمين ، كما نقلناه عنهم في جوابي السؤالين ( 12311
) و ( 8594 ) .
ثانياً:
الذي يظهر أن رفع اليدين في قنوت الوتر يبدأ من أول الدعاء ، ومن السنة البداءة
بالثناء قبل الشروع في الدعاء ، ولا نرى لمن خفض يديه عند الثناء أو لمن بدأ
برفعهما عند الشروع بالدعاء وجهاً ، ولا نرى تضادّاً بين رفع اليدين مع الثناء ،
ويمكن الاستدلال على الجواز من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول :
ثبوت الرفع نصّاً في الثناء على الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أفقه أصحابه
:
1. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم قَالَ : كُنْتُ أَرْتَمِي بِأَسْهُمٍ لِي
بِالْمَدِينَةِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَسَفَتِ
الشَّمْسُ فَنَبَذْتُهَا فَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في كُسُوفِ الشَّمْسِ قَالَ فَأَتَيْتُهُ
وَهُوَ قَائِمٌ فِى الصَّلاَةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ
وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا .
رواه مسلم ( 913 ) .
2. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَحَضَرَتْ
الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ
النَّاسَ وَيَؤُمَّهُمْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَقَ الصُّفُوفَ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَصَفَّحَ النَّاسُ
بِأَبِي بَكْرٍ لِيُؤْذِنُوهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلِمَ
أَنَّهُ قَدْ نَابَهُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِمْ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ كَمَا أَنْتَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ
يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... .
رواه النسائي في " سننه " ( 1183 ) وصححه الألباني في " صحيح النسائي " .
وبوَّب عليه النسائي رحمه الله بقوله :" بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَحَمْدِ اللَّهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ " .
قال الشيخ عبد المحسن العبَّاد – حفظه الله - :
الحديث دالٌّ على ما ترجم له المصنِّف ، من جهة رفع اليدين ، وحمد الله والثناء
عليه في الصلاة .
" شرح سنن النسائي " ( شريط رقم 239 ) .
الوجه الثاني :
أنه قد ثبت في السنَّة الصحيحة أدعية لا بصيغة الطلب بل بصيغة الثناء والذِّكر ،
وهي في الحقيقة أدعية عند تأمل حقيقتها ، ومما ورد في ذلك :
أ. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
:
( أَفْضَلُ الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ
لِلَّهِ ) .
رواه الترمذي ( 3383 ) - وحسَّنه - ، وابن ماجه ( 3800 ) وحسَّنه الألباني في "
صحيح الترمذي " .
قال ابن عبد البر – رحمه الله - :
وأما قوله في حديث جابر ( أفضل الدعاء الحمد لله ) : فإن الذِّكر كله دعاء عند
العلماء .
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 6 / 43 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
الثناء يتضمن مقصود الدعاء كما في الحديث – وساق حديث جابر - فإن ثناء الداعي على
المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل :
إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا * * * كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
" مجموع فتاوى ابن تيمية " ( 22 / 381 ، 382 ) .
ب. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ ) .
رواه البخاري ( 5985 ) ومسلم ( 2730 ) .
ج. عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ
الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ
فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ
اللَّهُ لَهُ ) .
رواه الترمذي ( 3505 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ، ودعوة ذي
النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كرْبه بالتوحيد ، فلا يُلقي في الكرب
العظام إلا الشرك ، ولا ينجِّي منها إلا التوحيد ، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها
وغياثها .
" الفوائد " ( ص 53 ) .
والوجه الثالث :
أن الثناء على الله تعالى في أول الدعاء هو جزء منه لا أجنبي عنه .
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ
اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ ) .
رواه الترمذي ( 3477 ) وصححه ، وأبو داود ( 1481 ) وصححه الألباني في " صحيح
الترمذي " .
ومعنى ( صلَّى ) أي : دعا .
وكيف يفعل المانعون من رفع اليدين في الثناء على الله تعالى لو كان هذا الثناء في
وسط الدعاء ؟! فقد جاء في وسط دعاء الاستخارة ( فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم
وأنت علاَّم الغيوب ) فهل تُنزل الأيدي في وسط هذا الدعاء وتُرفع في أوله وفي آخره
؟! .
وبه يتبين : أن الثناء على الله تعالى يتضمن الدعاء ، بل هو أبلغ منه من وجوه كثيرة
ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية – انظر " مجموع الفتاوى " ( 22 / 376 – 389 ) - ومنها
أن الدعاء يكون من الكافر والمؤمن ، وأما الثناء فلا يكون إلا من المؤمن ، وقد سبق
في الأحاديث إطلاق الدعاء على الذِّكر وعلى الثناء على الله تعالى .
فلا وجه لعدم رفع اليدين في أول الدعاء عند الثناء ؛ لأن الثناء على الله في أول
الدعاء هو جزء من الدعاء ، بل قد ذكرنا عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه رفع يديه
في الثناء وحده.
والله أعلم
تعليق