الحمد لله.
موقف الإسلام من العصبية
الأحاديث المذكورة يدور معناها على ذم التعصب لأحد بالباطل، كالتعصب للقوم والقبيلة والبلد، بحيث يقف مع قومه أو قبيلته أو أهل بلده ضد من نازعهم، سواء كانوا على الحق أو على الباطل.
ومثل ذلك حين حدث شجار بين أنصاري ومهاجر، فتنادى البعض: يا للأنصار، وتنادى آخرون: يا للمهاجرين، فذم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعله من دعوى الجاهلية؛ لأن مقتضاه أن ينصر الأنصاري أخاه الأنصاري ولو كان مبطلا، وأن ينصر المهاجر أخاه المهاجر ولو كان مبطلا أيضا، وإنما شأن المؤمن أن يقف مع الحق، وأن ينصر المظلوم برفع الظلم عنه، وينصر الظالم بحجزه ومنعه عن الظلم، لا يفرق بين من كان من قومه أو من خارج قومه؛ إذ الجميع يشملهم وصف الإيمان والإسلام.
شرح حديث (ليس منا من دعا إلى عصبية...)
والحديث الأول رواه أبو داود (5121) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ. وهو حديث ضعيف كما قال الألباني في ضعيف أبي داود.
قال في "عون المعبود": " لَيْسَ مِنَّا: أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْل مِلَّتنَا مَنْ دَعَا: أَيْ النَّاس إِلَى عَصَبِيَّة: قَالَ الْمَنَاوِيُّ: أَيْ مَنْ يَدْعُو النَّاس إِلَى الِاجْتِمَاع عَلَى عَصَبِيَّة وَهِيَ مُعَاوَنَة الظَّالِم. وَقَالَ الْقَارِي: أَيْ إِلَى اِجْتِمَاع عَصَبِيَّة فِي مُعَاوَنَة ظَالِم. وَفِي الْحَدِيث مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة قَالَ صَاحِب النِّهَايَة: هُوَ قَوْلهمْ: يَا آلُ فُلَان، كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضهمْ بَعْضًا عَنْ الْأَمْر الْحَادِث مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّة: أَيْ عَلَى بَاطِل، وَلَيْسَ فِي بَعْض النُّسَخ لَفْظ (عَلَى).
مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة: أَيْ عَلَى طَرِيقَتهمْ مِنْ حَمِيَّة الْجَاهِلِيَّة. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَة اِبْن الْعَبْد هَذَا مُرْسَل، عَبْد اللَّه بْن أَبِي سُلَيْمَان لَمْ يَسْمَع مِنْ جُبَيْر. هَذَا آخِر كَلَامه. وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ وَقِيلَ فِيهِ الْعَكِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ: هُوَ مَجْهُول، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ، وَمِنْ حَدِيث جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه الْبَجَلِيّ مُخْتَصَرًا.
لكن الحديث معناه صحيح، وقد روى مسلم (1850) عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.
شرح حديث (....دعوها فإنها منتة)
والحديث الثاني: رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا
مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ !! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !!
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ.
فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ.
والكسْع: ضرب الدبر باليد أو بالرجل.
وروى مسلم (2584) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ: غُلَامٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ ـ أَوْ الْمُهَاجِرُونَ ـ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ !! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟! قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.قَالَ: فَلَا بَأْسَ؛ وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا؛ إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ. وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم":
"وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل، فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة. فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر هَذِهِ الْقِصَّة: (لَا بَأْس) فَمَعْنَاهُ لَمْ يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة بَأْس مِمَّا كُنْت خِفْته؛ فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون حَدَثَ أَمْر عَظِيم يُوجِب فِتْنَة وَفَسَادًا، وَلَيْسَ هُوَ عَائِدًا إِلَى رَفْع كَرَاهَة الدُّعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة. قَوْله (فَكَسَعَ أَحَدهمَا الْآخَر) هُوَ بِسِينٍ مُخَفَّفَة مُهْمَلَة أَيْ ضَرَبَ دُبُره وَعَجِيزَته بِيَدٍ أَوْ رِجْل، أَوْ سَيْف وَغَيْره " انتهى.
شرح حديث (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا)
والحديث الثالث: رواه النسائي في الكبرى (8865) وأحمد في المسند ): عن أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا، وفي رواية: فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا. والحديث حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
قال الملا علي القاري في "شرح مشكاة المصابيح" (14/ 183):
"من تعزى: أي انتسب بعزاء الجاهلية ـ بفتح العين ـ أي نسب أهلها وافتخر بآبائه وأجداده. فأعضُّوه: بتشديد الضاد المعجمة، من أعضضت الشيء جعلته يعضه، والعض أخذ الشيء بالأسنان أو باللسان على ما في القاموس. بِهَنِ أبيه: بفتح الهاء وتخفيف النون، وفي النهاية: الهن بالتخفيف والتشديد كناية عن الفرج. أي قولوا له: أعضض بذكر أبيك أو أيره أو فرجه. ولا تَكنوا: بفتح أوله وضم النون، أي لا تكنوا بذكر الهن عن الأير، بل صرحوا له بآلة أبيه التي كانت سببا فيه، تأديبا وتنكيلا " انتهى.
لمعرفة المزيد، يُرجى قراءة الإجابات التالية: (3755، 223726، 245983، 226254، 121823).
والله أعلم.
تعليق