الحمد لله.
أولاً :
قال الله تعالى : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) النور/26 .
وقد اختلف المفسرون في معناها على أقوال متقاربة ، لا يناقض بعضها بعضا .
فمن معاني " الخبيث " و " الطيب " في الآية :
1. الخبث والطيب في الأقوال .
فيكون معنى الآية : الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول .
وهذا قول عبد الله بن عباس ، ومجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن البصري ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، واختاره ابن جرير الطبري .
قال النحاس في كتابه " معاني القرآن " :
وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية .
ودل على صحة هذا القول : قوله تعالى ( أولئك مبرءون مما يقولون ) أي : عائشة وصفوان مبرَّآن مما يقول الخبيثون والخبيثات .
قال الطبري – رحمه الله - :
وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية : قول من قال : عنى بالخبيثات : الخبيثات من القول ، وذلك قبيحه وسيئه ، للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، هم بها أولى ؛ لأنهم أهلها ، والطيبات من القول ، وذلك حسنه وجميله ، للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول ; لأنهم أهلها وأحقّ بها .
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية : لأن الآيات قبل ذلك إنما جاءت بتوبيخ الله للقائلين في عائشة الإفك ، والرامين المحصنات الغافلات المؤمنات ، وإخبارهم ما خصهم به على إفكهم ، فكان ختم الخبر عن أولى الفريقين بالإفك من الرامي والمرمي به : أشبه من الخبر عن غيرهم .
وقوله : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ ) يقول : الطيبون من الناس مبرّءون من خبيثات القول ، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها ، ويغفرها لهم ، وإن قيلت فيهم ضرّت قائلها ولم تضرّهم ، كما لو قال الطيبَ من القول الخبيثُ من الناس لم ينفعه الله به ؛ لأن الله لا يتقبله .. "
" ولو قيلت له لضرّته؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا، وذلها في الآخرة " .
" تفسير الطبري " ( 19 / 144 ، 145 ) .
2. الخبيث والطيب من الأفعال :
ويكون معنى الآية : الأفعال الخبيثات للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من الأفعال ، وكذا الأفعال الطيبات للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من الأفعال .
وهو قول حبيب بن أبي ثابت ، وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، وروي عن هؤلاء الأئمة أنهم أضافوا الأقوال إلى الأفعال في معنى الآية ؛ فجمعوا بين القولين السابقين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين ، ومن كلام بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين .
وقد قال تعالى ( ضرب الله مثلاً كلمة طيبة ) ، ( ومثل كلمة خبيثة ) ، وقال الله : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل ، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث : لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها .
" مجموع الفتاوى " ( 14 / 343 ) .
3. الخبث والطيب من الأشخاص في النكاح :
ويكون معنى الآية : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء .
وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيِّباً ، وكان أولى بأن يكون له الطيبة ، وكانت عائشة الطيبة , وكانت أولى بأن يكون لها الطيب .
قال القرطبي – رحمه الله - :
وقيل : إن هذه الآية مبنية على قوله : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) النور/3 ، الآية ، فالخبيثات : الزواني ، والطيبات : العفائف ، وكذا الطيبون ، والطيبات .
واختار هذا القول النحاس أيضاً ، وهو معنى قول ابن زيد .
" تفسير القرطبي " ( 12 / 211 ) .
ثانياً :
لا إشكال في الآية ، على القول الأول أو الثاني ، ولا تعارض بينها وبين ما ذكر السائل ، ويراه الناس ، من أن الزوجة ربما كانت صالحة والزوج فاسقا ، أو العكس .
وإنما الإشكال – عند بعض الناس – في القول الثالث في مسألتين :
1. ما يرونه من عموم تزوج طيب بفاسقة ، وتزوج فاسق بطيبة .
2. ما ورد بخصوص زوجتي نوح ولوط عليهما السلام ووصف الله لهما بالخيانة ، وما ورد في تزوج امرأة فرعون المؤمنة بفرعون الطاغية .
فيقال هنا : إن معنى الآية ـ على تقدير أن يكون المراد بالخبث والطيب : خبث الأزواج وطيبهم ـ : أنه لا يليق بالطيب أن يتزوج إلا طيبة مثله ، ولا يليق بالخبيثة إلا خبيث مثلها ، ومن رضي بالخبيثة مع علمه بحالها : فهو خبيث مثلها ، ومن رضيت بخبيث مع علمها بحاله : فهي خبيثة مثله .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء .
وهذا - أيضاً - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم ، أي : ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له ، لا شرعاً ولا قَدَراً ؛ ولهذا قال : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) أي : هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان .
( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي : بسبب ما قيل فيهم من الكذب .
( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي : عند الله في جنات النعيم .
وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 35 ) .
وفي الآية بيان براءة عائشة رضي الله عنها ، حيث زكاها الله تعالى بوصفها بالطيبة لأنها كانت تحت الطيب ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الله تعالى ليختارها زوجة لنبيه صلى الله عليه وسلم لو كانت خبيثة ! ومن هنا كان الطاعن في عرض عائشة طاعناً في النبي صلى الله عليه ، ومستحقّاً للحكم بالردة والقتل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
قال أبو السائب القاضي : كنتُ يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطرستان ، وكان يلبس الصوف ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويوجِّه في كل سنَة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرِّق على سائر ولد الصحابة ، وكان بحضرته رجلٌ فذكَر عائشة بذكرٍ قبيحٍ من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله ، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور:26) فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث ، فهو كافر ، فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه ، وأنا حاضر ، رواه اللالكائي
" الصارم المسلول " ( 1 / 568 ) .
والأثر في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " للالكائي ( 1958 ) .
فلله دره من حاكم ، ونسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء ، وأن يكرم نزله بما ذبَّ عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم .
وأما ما كان من زوجتي لوط ونوح عليهما السلام ، حيث وصفهما الله تعالى بالخيانة في قوله ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) التحريم/10 ، فالخيانة هنا هي خيانة في الإيمان .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
( فَخَانَتَاهُمَا ) أي : في الإيمان ، لم يوافقاهما على الإيمان ، ولا صدَّقاهما في الرسالة ، فلم يُجْدِ ذلك كلَّه شيئاً ، ولا دفع عنهما محذوراً ؛ ولهذا قال : ( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) أي : لكفرهما .
( وَقِيلَ ) أي : للمرأتين : ( ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) .
وليس المراد ( فَخَانَتَاهُمَا ) في فاحشة ، بل في الدين ، فإنَّ نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة ؛ لحرمة الأنبياء ، كما قدمنا في " سورة النور " .
قال سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتة : سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية ( فَخَانَتَاهُمَا ) قال : ما زنتا ، أما امرأة نوح : فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط : فكانت تدل قومها على أضيافه .
وقال العَوفي عن ابن عباس قال : كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما ، فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء .
وهكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال الضحاك عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين .
" تفسير ابن كثير " ( 8 / 171 ) .
وهذه فتوى جامعة من علماء اللجنة الدائمة لكل ما سبق من المسائل نرجو أن تكون نافعة للسائل والقارئ ، وفيها الجواب على القسم الثاني من الإشكال الثاني ، وهو بخصوص تزوج امرأة فرعون المؤمنة من فرعون الطاغية .
سئل علماء اللجنة الدائمة :
حدثت مناظرة بيني وبين شخص مسيحي ، وقد فاجأني بقوله لي : هناك آية في القرآن تتضمن قول الله سبحانه وتعالى : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) إلخ الآية ، والآية الأخرى تتضمن قوله تعالى ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ، ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، وهناك آية أخرى وهي قوله تعالى ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) إلخ الآية ، وأن هناك على حد زعمه تناقضاً ، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) إلخ الآية ، بينما زوجات أنبياء الله نوح ولوط خبيثات ، وفرعون كما جاء فيه في القرآن وزوجته طيبة ، وحيث ليس لدي جواب مقنع آمل التكرم بإفتائي عن ذلك ، جزاكم الله خيراً .
فأجابوا :
أولاً :
قال الله تعالى : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) هذه الآية ذُكرت بعد الآيات التي نزلت في قصة الإفك تأكيداً لبراءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين ، زوراً وبهتاناً ، وبياناً لنزاهتها ، وعفتها في نفسها ، ومن جهة صلتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللآية معنيان :
الأول : أن الكلمات الخبيثات والأعمال السيئات أولى بها الناس الخبيثون ، والناس الخبثاء أولى وأحق بالكلمات الخبيثات والأعمال الفاحشة ، والكلمات الطيبات والأعمال الطاهرة أولى وأحق بها الناس الطيبون ذوو النفوس الأبية والأخلاق الكريمة السامية ، والطيبون أولى بالكلمات والأعمال الصالحات .
والمعنى الثاني : أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين ، والرجال الخبيثون أولى بالنساء الخبيثات ، والنساء الطيبات الطاهرات العفيفات أولى بالرجال الطاهرين الأعفاء ، والرجال الطيبون الأعفاء أولى بالنساء الطاهرات العفيفات ، والآية على كلا المعنيين دالة على المقصود منها ، وهو نزاهة عائشة رضي الله عنها عمَّا رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول من الفاحشة ومن تبعه ممن انخدع ببهتانه واغتر بزخرف قوله .
ثانياً :
قال الله تعالى ( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ، ومعنى الآيتين :
أن الله تعالى أخبر عن رسوله نوح عليه السلام أنه سأله تعالى أن ينجز له وعده إياه بنجاة ولده من الغرق والهلاك بناء على فهمه من ذلك من قوله تعالى له ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) فقال : ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، وقد وعدتني بنجاة أهلي ، ووعدك الحق الذي لا يخلف وأنت ( أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) ، ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي : الذين وعدتك بإنجائهم ؛ لأني إنما وعدتك بإنجاء مَن آمن مِن أهلك ، بدليل الاستثناء في قوله تعالى ( إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) ؛ ولذلك عاتبه الله تعالى على تلك المساءلة وذلك الفهم بقوله : ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ، وبيَّن ذلك بقوله ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ؛ لكفره بأبيه نوح عليه السلام ؛ ومخالفته إياه ، فليس من أهله ديناً ، وإن كان ابناً له من النسب ، قال ابن عباس وغير واحد من السلف رضي الله عنهم : " ما زنت امرأة نبي قط " وهذا هو الحق ، فإن الله سبحانه أغْيَر مِن أن يمكِّن امرأة نبي من الفاحشة ؛ ولذلك غضب سبحانه على الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة ، وأنكر عليهم ذلك وبرَّأها مما قالوا فيها ، وأنزل في ذلك قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة .
ثالثاً :
قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الآيتين من سورة التحريم .
بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاصة عائشة وحفصة رضي الله عنهن جميعاً على ما بدَر منهن مما لا يليق بحسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن يعتزلهن شهراً ، وأنكر تعالى عليهن بعض ما وقع منهن من أخطاء في حقه عليه الصلاة والسلام ، وأنذرهن بالطلاق وأن يبدله أزواجاً خيراً منهن : ختم سورة التحريم بمثلَين : مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين امرأة نوح وامرأة لوط ، ومثل ضربه للذين آمنوا بامرأتين صالحتين بآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ؛ إيذاناً بأن الله حكم عدل لا محاباة عنده ، بل كل نفس عنده بما كسبت رهينة ، وحث العباد على التقوى ، وأن يخشوا يوماً يرجعون فيه إلى الله ، يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ، يوم يفرُّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، يوم لا تزر فيه وازرة وزر أخرى ، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ، يوم لا تنفع فيه الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ، فبيَّن سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين ، وكانتا تحت رسوليْن كريميْن من رسل الله ، وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على مَن آمن بزوجها ، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه ، إيذاء وخيانة لهما ، وصدّاً للنَّاس عن اتباعهما ، فلم ينفعهما صلاح زوجيهما نوح ولوط ، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئاً ، وقيل لهاتين المرأتين : ادخلا النار مع الداخلين ، جزاءً وفاقاً بكفرهما وخيانتهما ؛ بدلالة امرأة نوح على من آمن به ، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه ، لا بالزنى ، فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى ( فَخَانَتَاهُمَا ) قال : " ما زنتا " ، وقال : " ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين " ، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم .
وبيَّن الله سبحانه بالمثل الذي ضربه للذين آمنوا بآسية زوجة فرعون ، وكان أعتى الجبابرة في زمانه ، أن مخالطة المؤمنين للكافرين لا تضرهم ، إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، ما داموا معتصمين بحبل الله تعالى متمسكين بدينه ، كما لم ينفع صلاحُ الرسولين : نوح ولوط زوجتيهما الكافرتين ، قال الله تعالى : ( لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، ولذلك لم يضر زوجة فرعون كفرُ زوجها وجبروته ، فإن الله حكم عدل لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره بل حماها وأحاطها بعنايته وحسن رعايته ، واستجاب دعاءها وبنى لها بيتاً في الجنة ، ونجَّاها من فرعون وكيده ، وسائر القوم الظالمين
مما تقدم في تفسير الآيات من أن ابن نوح ليس ابن زنى ، وأن عائشة رضي الله عنها برَّأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق ، ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات ، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزن وإنما كانتا كافرتين ، ودلت كل منهما الكفار على ما يسوؤهما ويصد الناس عن اتباعهما ، وأن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحاً في الشرائع السابقة ، وكذا زواج الكافر بالمؤمنة ، وأن الله حمى امرأة فرعون من كيده وحفظ عليها دينها ونجاها من الظالمين : يتبين أن الآيات المذكورة متوافقة ، لا متناقضة ، وأن بعضها يؤيِّد بعضاً .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 270 – 276 ) .
والله أعلم
تعليق