الخميس 16 شوّال 1445 - 25 ابريل 2024
العربية

الحكمة من تأخير بعض النعم

262012

تاريخ النشر : 24-01-2018

المشاهدات : 42358

السؤال

هل يؤجر من تأخر زواجه ، مثلاً شاب تزوج باكراً ، وستره الله ، ورزقه المرأة والأولاد ، والمنزل ، وتهيئت له أسباب السترة وحفظ الفرج ، بينما شاب آخر لم يستطع أن يتزوج ، والفتن محيطة به ، وأولها فتنة النساء ، والأفلام الإباحية ، فلو تزوج باكرا لربما كانت له بابا وحفظاً من الحرام ؛ لأن الزواج أفضل الطرق لحفظ الفرج ؟ وثانيا : الصلاة في المسجد الحرام تعادل 100 ألف صلاة في غيره ، فما الحكمة من تفضيل أناس عاشوا وخلقوا هناك ، ويصلون دائماً هناك ، ونحن مثلا نصلي في مسجد عادي أو في بيتنا ، فمن الطبيعي ستكون حسناتهم أكثر منا كثيراً ، فأنا أعشق الصلاة ، والإقامة في المسجد الحرام ، ولكن الله كتب لي ـ وله الحمد ـ الحياة في مناطق عادية ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الزواج وتقدمه وتأخره ، وتيسره وتعسره ، كل ذلك بقدر الله ، ولا يعني هذا أن المسلم لا يفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤدية إلى مسبباتها ، ولا يتنافى الأخذ بالأسباب مع كون الشيء مقدراً في الأزل ، فالمرء لا يدري ما كُتب له ، وهو مأمور بفعل الأسباب .

والمصائب التي يقدرها الله تعالى على العبد , تكون خيراً للمؤمن إذا صبر عليها واحتسب ولم يجزع , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .

وراجع جواب السؤال رقم : (72257) ، (21234).

ثانيا:
قد أمر الله تعالى المؤمنين رجالا ونساءً بغض البصر ، فانظر جواب السؤال رقم : ( 20229 ) فقد ذكرنا هناك سبعاً وعشرين وسيلة من الوسائل المعينة على غض البصر ، وتجد " فوائد غض البصر " في جواب السؤال رقم : ( 22917 ) ، وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم : ( 33651 ) طرق مواجهة فتنة النساء ، وفي جواب السؤل رقم : ( 20161 ) تجد حل مشكلة الشهوة وتصريفها.

ثالثا:

يجب أن تعلم أخي السائل أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء ، وابتلاءه إياه عافية ؛ قال سفيان الثوري: " منعه عطاء ؛ وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم ، وإنما نظر في خير عبده المؤمن ، فمنعه اختيارًا وحسنَ نظرٍ ".

وقد قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )البقرة/ 216.

قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- معلقا على الآية المذكورة:

" ولهذا من لطف الله تعالى بعبده المؤمن أنه ربما طمحت نفسه إلى سبب من الأسباب الدنيوية ، التي يظن أن بها إدراك بغيته ، فيعلم الله أنها تضره ، وتصده عما ينفعه ، فيحول بينه وبينها ، فيظل العبد كارها ، ولم يدر أن ربه قد لطف به ، حيث أبقى له الأمر النافع ، وصرف عنه الأمر الضار" انتهى من "المواهب الربانية من الآيات القرآنية "(151).

وقال ابن القيم رحمه الله:

" ومن أسرار هذه الآية : أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور ، والرضا بما يختاره له ويقضيه له ؛ لما يرجو فيه من حسن العاقبة .

ومنها : أنه لا يقترح على ربه ، ولا يختار عليه ، ولا يسأله ما ليس له به علم ، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربه شيئا ، بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره ، فلا أنفع له من ذلك .

ومنها : أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أَمَدَّهُ فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر ، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه ، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه .

ومنها : أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى ، ومع هذا فلا خروج له عما قُدِّرَ عليه ، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه ، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه ؛ لأنه مع اختياره لنفسه . ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به ، فيصير بين عطفه ولطفه ، فَعَطْفُهُ يقيه ما يحذره ، ولًطْفُهُ يهون عليه ما قدره ، وإذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تَحَيُّلُهُ في رده ، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة ؛ فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف " انتهى من "الفوائد" (137).

وقال أيضا رحمه الله :

" واختيار الله لعبده خير من اختيار العبد لنفسه ، وهذا سر بديع ، ينبغي للعبد أن يتفطن له في سبره إلى ربه ؛ " فأحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأعلم العالمين ، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ، ومن آبائهم وأمهاتهم ، إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم ؛ نظرا منه لهم ، وإحسانا إليهم ، ولطفا بهم ، ولو مُكِّنُوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وإرادة وعملا ، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته ، أحبوا أم كرهوا ، فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته ، فلم يتهموه في شيء من أحكامه ، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته ، فنازعوه تدبيره ، وقدحوا في حكمته ، ولم ينقادوا لحكمه ، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الباطلة ، وسياساتهم الجائرة ، فلا لربهم عرفوا ، ولا لمصالحهم حصلوا ، والله الموفق .

ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة ، فإنه لا يزال راضيا عن ربه ، والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين ؛ فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له ، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية ، وهذا هو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك .

وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره ، فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى ؛ فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة ، لا يخرج عن ذلك البتة ، كما قال في الدعاء المشهور : ( اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيَّ حكمك ، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرجا ) قالوا : أفلا نتعلمهن يا رسول الله ! قال : ( بلى ؛ ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن ).

والمقصود قوله : (عَدْلٌ فيَّ قضاؤك ) وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك ، فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب ، وهو عَدْلٌ في هذا القضاء ، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال : ( والذي نفسي بيده ! لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، وليس ذلك إلا للمؤمن ) " انتهى من "الفوائد" (92-93).

رابعا:

وأما حبك للمسجد الحرام ، وشوقك للتعبد فيه فلعله أن يحصل لك بإخلاص النية ، وصدق الإرادة ، ما تعجز أن تناله بعملك ، فعنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ : ( إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيه ؛ِ حَبَسَهُمْ الْعُذْر ) رواه البخاري (2839) .

وذلك أن الهمُّ بالحسنات ، يكتب لصاحبه حسنة كاملة وإنْ لم يعملها ، كما في حديث ابن عباس وغيره .. قال ابن رجب رحمه الله:

" وفي حديث خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ : " .. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً .. " [ رواه أحمد 18556، قال الأرناؤوط : إسناده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة ] ، وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا : هو العزمُ المصمّم الذي يُوجَدُ معه الحرصُ على العمل ، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولا تصميم .
قال أبو الدرداء : من أتى فراشه ، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل ، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ ، كتب له ما نوى ..
وروي عن سعيد بن المسيب ، قال : من همَّ بصلاةٍ ، أو صيام ، أو حجٍّ ، أو عمرة ، أو غزو ، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك ، بلَّغه الله تعالى ما نوى .
وقال أبو عِمران الجونيُّ : يُنادى المَلَكُ : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقولُ : يا ربِّ ، إنَّه لم يعملْهُ ، فيقول : إنَّه نواه ..
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ ، تأكَّدَ الجزاءُ ، والتحقَ صاحبُه بالعامل ، كما روى أبو كبشة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) .
[رواه الترمذي (2325) ، وأحمد (18031) وقال الترمذي عقبه : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " ، وصححه الألباني في " صحيح سنن الترمذي " ] .

ثم قال ابن رجب رحمه الله :
" وقد حمل قوله : ( فهما في الأجر سواءٌ ) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) ، قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة : همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ : هم القاعدون من غير أهل الأعذار " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/321) .

وقال السندي رحمه الله في " حاشيته على ابن ماجه " :
" وَالْمُرَاد يُؤْجَر عَلَى نِيَّة الْخَيْر ، فَهُوَ فِي أَصْل الْأَجْر أَيْضًا مُسَاوٍ لِلْمُنْفِقِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُنْفِقِ زِيَادَة ، فَإِنَّ مَنْ نَوَى حَسَنَة يُكْتَب لَهُ وَاحِدَة ، وَإِذَا فَعَلَهَا فَعَشْرَة " انتهى .

وانظر أجوبة الأسئلة : (219763) ، و(127714) ، و(99324).

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الاسلام سؤال وجواب