الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

يسأل عن معنى (منهم) في قوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ..) .

263410

تاريخ النشر : 12-07-2017

المشاهدات : 23170

السؤال

في آخر سورة الفتح يقول الحق : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، ثم يقول في آخر الآية ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ، لماذا لم يقل : وعدهم الله مفغرةً وأجراً عظيماً ، هل محمد ومن معه بعضهم مؤمن وبعضهم غير مؤمن ، بعضهم عمل الصالحات وبعضهم لم يعمل الصالحات ؟ كيف يكون بعضهم لم يؤمن ولم يعمل الصالحات ثم يكون في نفس الوقت شديداً على الكفار ، ويغيظ الكفار؟ هل الكفر في الآية ليس نقيض الإيمان ؟

ملخص الجواب

ملخص الجواب :  معنى الآية الكريمة: محمد رسول الله، والذين آمنوا معه مؤمنون يعملون الصالحات، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ...} لا يصحّ أن تكون (مِنْ) فيه تبعيضية.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

لقد أثنى الله تعالى على أصحاب النبي ثناءًا يحمل في طياته وصفهم بجميل الخصال، ونعتهم برضي السجايا، وهذه آية عظيمة جليلة القدر في وصف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح/28- 29].

ثانيًا:

أساس الإشكال واللبس على القارئ في تساؤله حول هذه الآية ، أنه ظن أن حرف الجر "من" يدل هنا على التبعيض ، فاعتقد أن الله جل وعلا قد وعد "بعض" الصحابة الذين كانوا مع رسول الله ، ووصفهم في أول الآية = وعد "بعضهم" : مغفرة وأجرا عظيما .

وهذا غلط، فليس "التبعيض" هو المعنى الوحيد ، لهذا الحرف ، بل لها معان أخرى ، سوى ذلك.

فمن معانيها:

1- ابتداء الغاية .

2- التبعيض .

3- بيان الجنس .

انظر: شرح المفصل، لابن يعيش: (4/ 458)، تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد: (6/ 2875)، والبحر المحيط: (3/ 189).

ويمنع أن تكون " من " للتبعيض أمور، منها: عدم صلاحية لفظة " بعض " مكانها، يقول ابن الوزير عن هذه الآية: " و" مِنْ " ها هنا لِبيان الجنس، لأن لفظةَ "بعضٍ" لا تَصلُحُ مكانَها. فما أكرمَ قوماً ذُكِروا في التَّوراة والإنجيل والقرآن، وَوُصفوا بالسَّبق والهجرة والنُّصْرَة والإيمان، أولئك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين صَدَعتْ مَمادحُ الوحي قرآناً وسُنَّةً، بأنَّهم خيرُ الناس وخيرُ القرون، وخيرُ أُمَّة "، العواصم والقواصم: (1/ 180)، وانظر: الأضداد، لابن الأنباري: (252).

قال ابن عطية رحمه الله : " وقوله تعالى: مِنْهُمْ هي لبيان الجنس وليست للتبعيض، لأنه وعد مرجّ للجميع." انتهى، من "المحرر الوجيز" (5/143) .

وقال ابن كثير رحمه الله : " مِنْ" هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، مَغْفِرَةً أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ. وَأَجْرًا عَظِيمًا أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا وَرِزْقًا كَرِيمًا، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ ، وَقَدْ فَعَلَ.                              

قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أحدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ". انتهى، من "تفسير ابن كثير" (7/363) .

ثالثًا:

يقول الشيخ العلامة المعلمي اليماني في كلام نفيس له حول هذه الآية، ننقله هنا بتمامه:

" قوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ المرادُ المعيَّة الكاملة، أي بالأبدان والإيمان وتوابعه، لا بالأبدان فقط، وإلاّ لدخل المشركون، ولا بالتظاهر بالإسلام، وإلا لدخل المنافقون، والسياق يأباه؛ لأنّ المنافقين لم يكونوا أشدَّاء على الكفار رحماء بالمؤمنين، بل وصفهم الله - عزَّ وجلَّ - في مواضع من كتابه بعكس ذلك، ولم يكونوا ممن يُرَوْن ركَّعًا سُجَّدًا، بل وصفهم الله تعالى بأنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى يراؤون الناس، وأنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا. وأوضح من هذا: أنهم لم يكونوا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، كما هو واضح.

وحينئذٍ، فتلخيصُ المعنى: محمد رسول الله، والذين آمنوا معه : مؤمنون يعملون الصالحات.

فقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ... لا يصحّ أن تكون (مِنْ) فيه تبعيضية.

فإن قيل: لم لا يُجعل معنى قوله: وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ: مؤمنون يعملون الصالحات، أي في الجملة، أي يقع هذا منهم، بدون تعرُّضٍ لدوام ذلك أو عدمه، فيدخل حينئذٍ مَن آمن وعمل الصالحات ثم ارتدّ على عقبه، ثم يُجعَل معنى قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ أي ثبتوا على ذلك، فحينئذٍ يصحّ التبعيض؟

قلت: لا يخفى ما في هذا من التعجرف:

1 - لأنّ الله - عزَّ وجلَّ - وصف الذين معه بأنهم: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...، وأطلق الوصف، وعبَّر بالاسم الدالّ على الثبات والدوام في (أشداء) و (رحماء)، وجاء بقوله: (تراهم) مخاطبًا لكل من يمكن منه الرؤية، فيشمل كل زمان.

2 - قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. فجاء بلفظ الماضي الذي يدل على وقوع ذلك فقط، فهو مناقض لغرض المعترض من الحمل على الثبات، وفيه حكمة بالغة سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.

بل لو جُعِل الخطاب فيه لخاصّة المؤمنين لم يلزم جواز ذلك، كما لا يلزم من قوله - عزَّ وجلَّ - لرسوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وأمثالها من الآيات = جوازُ ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم -. بل إن خطابه - عزَّ وجلَّ - لرسوله بذلك وأمثاله : هو من جملة العصمة. وهذه نكتة لطيفة ليس هذا محل إيضاحها.

وأمّا ما جاء في الحديث أن ناسًا يُحال بينهم وبين حوضه - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" = فنقول: إن المراد بهؤلاء أيضًا : جماعة ممن كانوا أسلموا ، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم الله عزَّ وجلَّ في كتابه بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، كما تقتضيه كلمة لمّا، فيتمسك - صلى الله عليه وسلم - بظاهر ذلك، فيقول: "أصيحابي"، فيُخبَر بأنهم أحدثوا بعده أشياء مَنعت دخول الإيمان في قلوبهم. بل، وقد يقال: إن من مات بعد أن أسلم وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه = ممّن تناله الرحمة ما لم يُحدِث.

ومع هذا كله، فليس في الحديث أن أولئك المردودين يخلَّدون في النار.

وممّا يرد الاستدلال بالحديث قوله: "أصيحابي" - بالتصغير -، ممّا يدل أنهم ليسوا من أصحابه المرادين بالآية الكريمة.

فإن قيل: فما النكتة في العدول عن أن يقال: (وعدهم الله)، إلى ما في النظم الكريم؟

قلت: قد علم الله عزَّ وجلَّ أنه سيكون في هذه الأمة من يطعن في أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فربّما يقول قائل: إن قوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ ... إلخ يدلُّ على الثبات والدوام - كما تقدم -, ويزعم أن منهم من لم يثبت، فيستدل بذلك على أنه لم يدخل في قوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ؛ لأن الله وصف الداخلين في ذلك بالثبات، وهذا لم يثبت.

 = فدحض الله عزَّ وجلَّ هذه الشبهة وأرغم أنف صاحبها بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فلم يشترط في الوعد دوامًا ولا ثباتًا، بل وهبه لكل من وقع منه إيمان وعملٌ للصالحات.

وعُلِمَ بذلك - مع ما تقدم - أنّ كل من وقع منه إيمان وعمل صالح : فهو ممّن علم الله عزَّ وجلَّ إنه ثابت على ذلك، حتى لو فُرض أنه وقع منه شيءٌ من المخالفات، فهو صادر عن تأويل أو سهوٍ أو خطأ، وتَعقُبُه التوبة النصوح. وبالإجمال، قد غفره الله عزَّ وجلَّ، فلا يخلّ بالثبات المفهوم ممّا تقدم.

على أنه يمكن أن تكون (مِنْ) تبعيضيّة، ولا يَرِدُ شيء مما تقدم. وذلك بأن يقال: كونها تبعيضية لا يستلزم التبعيض، بل جيء بها لتحقيق انتفاء التبعيض، من باب نفي الشيء بإثباته، وهو باب معروف في العربية، منه ما يسمُّونه: تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقوله:

ولا عيب فيهم ... البيت.

فإن ظاهره إثبات العيب، ولكنّ هذا الإثبات جُعِلَ وسيلة إلى تحقيق النفي.

ومنه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، على جَعْل الكاف أصليَّة. ظاهره إثبات المِثل، والمقصود تحقيق نفيه، كما هو موضَّح في محلِّه.

ومنه التعليق بالمُحال، كقوله تعالى: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40]. فظاهره إثبات دخولهم، والمقصود تأكيد نفيه وكقوله: ....

فيقال هنا: إنّ (مِنْ) إذا جُعِلت للتبعيض كان ظاهرها أن منهم من لم يؤمن ولم يعمل الصالحات، ولكنّ الثابت بالسياق انتفاء ذلك، فعُلم أن المراد بهذا الإثبات تحقيق النفي، وتبكيت مَن يزعم أنّ مِن أولئك مَن لا يدخل الجنة.

ومثاله: أن يثبت عند السلطان اشتراك جماعة في الجهاد، فيريد الإنعام عليهم، فيقوم بعض بطانة السوء يطعن في بعضهم ليحرمهم الملك، فيقول الملك: سأُنْعِم على من جاهد منهم - وقد علم أن جميعهم جاهدوا -. وإنما ملخَّص المعنى: أنه لن يحرم منهم أحدًا، اللهم إلا إن كان فيهم من لم يجاهد، وقد عُلِم أنه ليس فيهم من لم يجاهد، فعُلِم أنه لن يحرم منهم أحدًا البتة"، آثار الشيخ المعلمي: (25/ 27 - 31).


وخلاصة الجواب :

معنى الآية الكريمة: محمد رسول الله، والذين آمنوا معه مؤمنون يعملون الصالحات، وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ... لا يصحّ أن تكون (مِنْ) فيه تبعيضية.

والله أعلم 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب