الخميس 16 شوّال 1445 - 25 ابريل 2024
العربية

موقف ابن تيمية من إقعاد النبي على العرش وأنه رأى ربه في صورة شاب أمرد وقدم العالم

266259

تاريخ النشر : 20-02-2018

المشاهدات : 65047

السؤال

قرأت لشيخ الاسلام ابن تيمية أنه أفتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يجلس مع الله على العرش ، وأن رسول الله رأى الله بصورة شاب ، واستدلّ بحديثٍ ، كما وأنه سُجن بفتوى من مذاهب القضاة الأربعة ؛ لأنه أفتى بأزلية جنس العالم مع الله عز وجل ، أليس هذا كفراً ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

لم يقل ابن تيمية رحمه الله إن الله يجلس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش، وإنما نقل أثر مجاهد في ذلك، ونقل قبول السلف له.

وأثر مجاهد في إقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه أبو بكر الخلال في "السنة" عن غير واحد عن محمد بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قال في قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) الإسراء/ 79 ، قَالَ: " يُجْلِسُهُ عَلَى الْعَرْشِ".

وفي رواية: قَالَ: "يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ".

وينظر: "السنة للخلال" (1/ 213) وما بعدها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه ، روى ذلك محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد؛ في تفسير: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة. قال ابن جرير: وهذا ليس مناقضا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه لا يقول إن إجلاسه على العرش منكر - وإنما أنكره بعض الجهمية- ولا ذكرُه في تفسير الآية منكر" . انتهى من "مجموع الفتاوى"(4/ 374).

وينظر كلام ابن جرير رحمه الله في تفسيره (17/ 531).

كما ينظر: كتاب "السنة" للخلال، وكتاب "العرش"، للذهبي (2/ 273 - 282)، ففيهما النقل عن جماعة من أئمة السلف ، ممن قبل هذا الأثر، منهم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم، وغيرهم.

وأما رأي شيخ الإسلام نفسه، فيؤخذ من قوله: " وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول.

وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود" انتهى من "درء التعارض" (5/ 237).

ثانيا:

لم يقل ابن تيمية رحمه الله إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد، وإنما ساق الحديث المروي في ذلك، وبين أنه رؤيا منام، والإنسان قد يرى ربه في منامه على صور مختلفة ، وتكون الصورة التي يراها مناسبة لحاله وإيمانه ، فقد يراه في صورة شاب ، أو في صورة شيخ ، مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى ليس على هذه الصورة في الحقيقة ، لأنه سبحانه لا يشبه أحدا من خلقه .

والحديث ورد بألفاظ منها : ( رَأَيْتُ رَبِّي فِي المنام في صورة شاب مُوَقَّرٍ فِي خَضِرٍ، عليه نَعْلانِ من ذهب، وَعَلَى وجهه فراش مِنْ ذهب ).

ومنها : (أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة ، قدماه في الخضرة ، عليه نعلان من ذهب ، على وجهه فراش من ذهب).

ومنها : (رأيت ربي في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء).

والحديث مختلف في صحته، فممن صححه من الأئمة : أحمد بن حنبل ، وأبو يعلى الحنبلي ، وأبو زرعة الرازي .

وممن ضعفه : يحيى بن معين ، والنسائي ، وابن حبان ، وابن حجر ، والسيوطي .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية": (7/ 229): " وكلها [يعني روايات الحديث] فيها ما يبين أن ذلك كان في المنام ، وأنه كان بالمدينة ، إلا حديث عكرمة عن ابن عباس ، وقد جعل أحمد أصلهما واحداً ، وكذلك قال العلماء".

وقال أيضا في "بيان تلبيس الجهمية": (7/ 194): " وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه ، قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام " انتهى .

وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 594) : " وهذه الرؤية : رؤيا منام ؛ إن صحت".

وبهذا تعلم أن من الكذب على ابن تيمية ما ينسب إليه في هذه المسألة، حتى يظن الظان أن ابن تيمية يشبه الله بالشاب الأمرد.

وإنما هذه رؤيا منام، في حديث يرويه الأئمة، فلا لوم على شيخ الإسلام في روايته.

قال رحمه الله : " فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه ، فهذا حق في الرؤيا .

ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام ، فإن سائر ما يُرى في المنام ، لا يجب أن يكون مماثلا .

ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها : مناسبة ، ومشابهة لاعتقاده في ربه . فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا ، أتي من الصور، وسمع من الكلام: ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس . قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجابا بينه وبين الله .

وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ، ويخاطبهم ، وما أظن عاقلا ينكر ذلك ؛ فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه ...

وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب ، يتعلق به سبحانه وتعالى ، وإنما ذلك بحسب حال الرائي ، وصحة إيمانه وفساده ، واستقامة حاله وانحرافه.

وقول من يقول : ما خطر بالبال أو دار في الخيال ، فالله بخلافه ، ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا ، كان محملاً صحيحاً ، فلا نعتقد أن ما تخيّله الإنسان ، في منامه أو يقظته ، من الصور : أن الله في نفسه مثل ذلك ، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك ، بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها ، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره ، في منامه ويقظته ، وإن كان ما رآه مناسبا مشابها لها ، فالله تعالى أجل وأعظم ".

انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 325).

ثالثا:

لم يقل ابن تيمية رحمه الله بقدم العالم، ولا أفتى الفقهاء بسجنه لأجل ذلك، فهذا محض كذب وافتراء.

وإنما قال رحمه الله بتسلسل الحوادث ، وأن جنسها قديم، بمعنى : أنه ما من مخلوق ، إلا وقبله مخلوق ، إلى ما لا نهاية في الأزل .

لكن كل حادث منها : "مخلوق" ، كائن بعد أن لم يكن ؛ فليس هناك شيء معين ، قديم ، أو غير مخلوق من العالم ؛ لا العرش، ولا الكرسي ، ولا القلم ، ولا السماء ، ولا الأرض ، ولا شيء قط ، من المخلوقات كان قديما ، لم يزل ؛ بل ما من مخلوق حادث ، إلا وهو مسبوق بعدم نفسه .

والخالق جل جلاله ، سبق ذلك كله ، فكان أولا ، لا شيء قبله ؛ بل هو قبل كل شيء .

وهو آخر ، لا شيء بعده ، سبحانه ، ولا منتهى لأوليته ، كما لا منتهى لآخريته ، سبحانه .

قال رحمه الله: "ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله ، فإن الله خالق كل شيء ، وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه .

وإن قيل ، مع ذلك ، بدوام كونه خالقا ؛ فخلقه شيئا بعد شيء ، دائما : لا ينافي أن يكون كل ما سواه مخلوقا محدثا ، كائنا بعد أن لم يكن . ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى ، مساويا له؛ بل هذا ممتنع بصرائح العقول ، مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله" .

انتهى من "منهاج السنة" (2/ 355).

فشيخ الإسلام رحمه الله يقول بتسلسل الحوادث في الماضي، بمعنى أنه ما من (مخلوق) إلا وقبله مخلوق، وكل مخلوق فهو مسبوق بالعدم، ولم يقل قط إن شيئا من المخلوقات مقارن لله تعالى، أو ليس مسبوقا بعدم نفسه.

ونظير هذا: دوام الحوادث (أي المخلوقات) في المستقبل، فإن نعيم الجنة، تفنى آحاده، ويبقى نوعه، كما قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) ص/54 .

فتسلسل الحوادث في المستقبل، لا يمنع من كونه تعالى هو الآخر، وكذلك تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع من كونه هو الأول.

والقول بحوادث لا أول لها، أو بالقدم النوعي للحوادث لا محذور فيه، كما نص على ذلك غير واحد من محققي المتكلمين ، كالأرموي، والدواني، ومحمد عبده، ومحمد بخيت المطيعي، بل هو مقتضى أسماء الله وصفاته وأنه لم يزل خلاقا عليما، ونكتفي هنا بنقل كلام المحقق الدواني.

قال رحمه الله: "وأنت مما سبق خبير بأنه يمكن صدور العالم ، مع حدوثه على هذا الوجه، فلا يلزم القدم الشخصي في شيء من أجزاء العالم، بل القدم الجنسي، بأن يكون فرد من أفراد العالم لا يزال على سبيل التعاقب موجودا" انتهى من "شرحه على العضدية" ص 10.

والنصيحة لك أن تقبل على تعلم العلم النافع- لا سيما وأنت في هذه السن المبكرة- وألا تنشغل بالشبهات والردود، فإن هذا يصد عن كثير من العلم.

فاحرص على قراءة كتب السلف، وتلقي العلم على أيدي الثقات، واحذر الشبهات والنظر في كتب المخالفين ومواقعهم، فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة.

قال الذهبي رحمه الله ، وساق قول سفيان:

"من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة ، وهو يعلم : خرج من عصمة الله ، ووكل إلى نفسه.

وعنه: من يسمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقيها في قلوبهم".

ثم قال:

" قلت : أكثر أئمة السلف على هذا التحذير ؛ يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (7/ 261).

وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب