الحمد لله.
أختنا الفاضلة :
الإنسان مركب من أفكار ومشاعر وسلوك ، فإذا غلبت الإيجابية على أفكاره ، انتظمت مشاعره وغلب على سلوكه الإيجابية .
وإذا غلبت السلبية على أفكاره ، اضطربت مشاعره ، وغلب على سلوكه السلبية .
والمصدر الرئيس لهذه الأفكار هو ما يسمى بالمعتقد المركزي Core belief ، وهو معتقد مركزي دفين راسخ في النفس البشرية ، يتكون مع مر الزمان من خلال المواقف والخبرات الحياتية ، ولا يلبث أن يترجم إلى معتقدات وسطية في صورة انطباعات Attitudes وافتراضات Assumptions وقواعد Rules .
وهذا كله يظهر على السطح أثناء المواقف والأحداث التي تتعرضي لها في صورة ما يسمى بالأفكار التلقائية Automatic thoughts .
ولو أسقطنا هذه المنظومة المعرفية على حالتك ، لوجدنا أن الأفكار التلقائية التي تتردد بداخلك مع كل موقف : ( إنهم لا يحبونني ، إنهم يرون أني مجنونة ، إنهم يرون أني مخيفة ) !!
وهذه الأفكار نابعة من انطباعات وافتراضات سلبية عن الصداقة ونظرة الناس لكِ .
وكل هذا من نسجك للأوهام داخل نفسك ، غذاها تسويل الشيطان لك ، ونفس أمارة بسوء الظن ، سوء الظن بمن حولك من الناس ؛ بل بنفسك أنت ، كذلك .
كقولك في نفسك : ( أي صداقة سيترتب عليها مشاكل ) ، ( أي تصرف أمام الناس سيقولون عني مجنونة ) ، ( أي أحد ينظر إلي ، سيرى أني مخيفة جدا ) .
وهذا كله أختنا الفاضلة نابع من معتقد مركزي دفين راسخ ألا وهو : ( أنا غير محبوبة وغير مرغوبة ) !
وبناء على ذلك ، فالمنبع الرئيس لهذه الأفكار هو ( عقلكِ ) ، و(نفسك الأمارة ، بالسوء ) أنت ، و( شيطانك ، وقرينك الملازم لك ) أنت ، وليس ذلك نابعا ممن حولك من الناس .
( أنت ) ، من أقنعت نفسك ، بأنكِ غير محبوبة !!
أنت ، من أقنعت نفسك ، بأنكِ غير مرغوبة !!
أنت ، من أقنعت نفسك بأنكِ مخيفة !!
فإذا استطعتِ أن تتحرري من تسلط هذه الأفكار ، والمشاعر السلبية عليكِ ، وتنظري إلى الواقع بغير أحكام وتصورات مسبقة ؛ فسوف تجدين أنه السهل جدا أن تكوني محبوبة ، ومرغوبة ، وجميلة في عين نفسكِ أولا ، وفي أعين الناس ثانيا !!
ذلك بأن محبة الناس لا تُكتسب ، واقعيا ، بمجرد الملامح والجمال ؛ فكم من جميلة وهي مبغوضة بين الناس لسوء خلقها ، وكم من فاتنة غير مقبولة عند الناس ، لصعوبة طبعها ؛
فالناس يأسرهم الإحسان ، وينفرهم البغي والعدوان .
قال تعالى :( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فصلت/34-36
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره (7/181) :
" وَقَوْلُهُ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ أَيْ: فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ .
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ، فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ : وَهُوَ الصَّدِيقُ، أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ، قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ: وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ .
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ: ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أَيْ: إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ ، فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ ، إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ، كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ." اهـ
تأملي ، رعاكِ الله ؛ هذه نتيجة الإحسان إلى الأعداء ، فما ظنكِ بالإحسان إلى الأصدقاء ، والمساكين والفقراء ، والمظلومين والضعفاء ، واليتامى والأقرباء ؟!
هذا كله مما ينبغي أن تجتهدي فيه ، وتنشغلي به عن آراء الناس في ملامحك أو هيئتك ؛ ذلك بأن الانشغال بالإحسان إلى الناس - لاسيما الضعفاء منهم - يضفي على الملامح الروحية المستورة : نورا وضياءً ، يرجع على الملامح البدنية المنظورة ، بهاءً ونضرةً وصفاءً ، وهذا مشاهد معلوم .
وليس بعد الإحسان للناس ، والتلطف معهم ، إلا اتخاذ بعض الخطوات العملية الفعالة ، في إنشاء الصداقات ، وتوطيد العلاقات ، كتحري المشاركة في الأعمال الجماعية الخيرية ، أو النشاطات النسائية التي تتيح فرص التعارف والصداقة ، مثل حلقات التحفيظ في المساجد ، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ، ونحو ذلك من الأنشطة النسائية الاجتماعية المفيدة لنفسك ، ولمن حولك من الناس .
وكذلك تحري التواصل مع الأخوات ذوات الاهتمامات المشتركة معكِ ، كمشاركة بعضهن في حب القراءة مثلا ، وتبادل الكتب النافعة فيما بينكن ، وإهدائها .
ومن الوسائل النافعة كذلك : مساعدة النساء ، لا سيما الأرامل والمطلقات وكبيرات السن منهن ، ومساعدة الأطفال ، لا سميا اليتامى منهم ، والسعي في قضاء حوائج الناس ، وإمداد يد العون للمحتاج ، في أمور المعاش ، والمعاد كذلك ، بل فوق ذلك .
فإن لم تستطيعي فعل ذلك بنفسك ، فاستعيني بأخصائية نفسية تساعدكِ على التخلص من مشاعرك السلبية ، وإبدالها بمشاعر إيجابية ، وذلك من خلال جلسات الدعم النفسي supportive therapy ، وغيرها من أنواع التدخلات النفسية النافعة ، بإذن الله وحوله وقوته .
وفي آخر الأمر اعلمي سلمك الله أن الجمال إلى زوال ، وأن إلى ربك الرجعى والمآل ؛ فلا فضل لجميل على دميم ، ولا لنبيل على ذميم ، عند الله ، إلا بالتقوى والعمل الصالح ؛ قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
( إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ . وَقَالَ: اقْرَءُوا : ( فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا ) . [الكهف: 105]
رواه البخاري (4729) ومسلم(2785).
نسأل الله أن يصرف عنكِ الحزن في الدنيا والآخرة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه سبحانه .
والله تعالى أعلم
تعليق