الحمد لله.
أولاً:
للابن البالغ أن يبيت حيث يشاء ، لأنه ببلوغه صار متوليا لأمور نفسه بنفسه ، ولا ولاية لأحد عليه ، إلا إذا اختار مكانا يخشى عليه منه أن يقع في شيء من الفساد ، فإنه يمنع من ذلك .
قال البهوتي رحمه الله في "الروض المربع" (7/161) : "ويكون الذكر بعد بلوغه ورشده حيث شاء ، لأنه لم يبق عليه ولاية لأحد" انتهى .
قال ابن قاسم في حاشيته :
"وسواء كان عند أبيه أو عند أمه أو منفردا بنفسه .. لقدرته على إصلاح أموره ، إلا أن يكون أمرد ، يُخاف عليه الفتنة ، فيمنع من مفارقتها" انتهى .
فتبين بذلك أن لك الحق أن تبيت عند أبيك أو عند أمك ، وليس لأحدهما أن يلزمك بما لا تريد.
ثانيا :
عليك أن تلتمس طاعة والديك والقيام بحقهما والجمع بين رغبتيهما قدر المستطاع ، دون أن تخسر واحدا منهما ، ونجاحك الأكبر هو في تحقيق هذا الهدف .
وننصحك بعدد من الأسباب لعلك تستطيع ذلك :
- دعاء الله سبحانه بأن يوافق أبوك على تحقيق رغبة أمك .
- أن تجعل أحد أقربائك العقلاء يتوسط ويقنع والدك بأن تذهب إلى أمك.
- أن تكلم أنت أباك بأسلوب حسن ومؤدب ، بأنك تريد أن تذهب ، وتقعد مع أمك لتخدمها وترعاها، وتذكره بفضل ذلك وأنه متى ما دعاك وأرادك رجعت إليه، أو أن تخصص أياما من الأسبوع تكون فيها عنده .
وقد روي أن رجلا قال لمالك : والدي في السودان ، كتب إلي أن أقدم عليه ، وأمي تمنعني من ذلك ، فقال له مالك : أطع أباك ولا تعص أمك ! يعني أنه يبالغ في رضى أمه بسفره لوالده ، ولو بأخذها معه ، ليتمكن من طاعة أبيه وعدم عصيان أمه . ينظر "التوضيح لابن الملقن" (15/458) .
لكن إذا تعارض رغبة أمك ، ورغبة أبيك ، ولم يمكنك الجمع بينهما ، ولا التوفيق بين الرغبتين بصورة ممكنة ، مقبولة ؛ فهنا تقدم طلب الأم على الأب، وهذا مذهب جمهور العلماء .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ .
رواه البخاري (5971) ومسلم (2548) .
وقد نقل ابن حجر رحمه الله أقوال العلماء في "فتح الباري"(10/402):
"قال ابن بطال مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر .
قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى به، ثم تشارك الأب في التربية .
وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، فسوّى بينهما في الوصاية ، وخص الأم بالأمور الثلاثة .
قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة .
وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب" انتهى .
ويتأكد ذلك : إذا لم يكن عند الوالدة محرم لها ، يكون معها إذا ذهبت أو قعدت .
لكن لا يحل لك أن تهمل حق الوالد بالكلية ، بل تواصله دائما ، وتزوره ، وتجتهد في أن تهيئ مصلحة أمك ، وتقضي حاجتها في بعض أيامها ، وتستئذنها لتبيت مع والدك يوما ، أو نحو ذلك ، مما يرضيه ، ويقر عينه بك ، ولا يضر بحق أمك ، ولا مصلحتها .
وينظر جواب السؤال (134593) .
والخلاصة:
بر الوالدين من أعظم المأمورات التي أمر الله بها، ويجب أن يجمع الإنسان بين طاعتهما، وتفضل الأم بالطاعة عند التعارض، لكن عليك مراعاة حرص والدك على قربك ، ونظره لمصلحتك ، واهتمامه بشأنك .
يسر الله لك أمرك ، وأقر عينك برضا والديك ، وأقر عينهما ببرك لهما .
والله أعلم .
تعليق