الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

الخلاف في كون النهي يقتضي الفساد وبيان مذهب الحنابلة في ذلك

289895

تاريخ النشر : 29-08-2018

المشاهدات : 41530

السؤال

من أهل العلم من يقول : بأن النهي عن الشيء يقتضي فساد المنهي عنه ، فإذا كان القائلون بهذا القول يرون عدم صحة الصلاة في الثوب أو المكان المحرم ، ويرون كذلك عدم صحة الوضوء بالماء المحرم، فهل يلزم من قولهم هذا بطلان صلاة من يحلق لحيته أو من يدخن ، وكذلك بطلان الوضوء في الثوب أو المكان المحرم ، مثل المكان الذي فيه صور لذوات الأرواح؟ وهل يدخل في هذا النهي كذلك ، على قولهم ، سائر العبادات الأخرى مثل قراءة القرآن والذكر والدعاء وطلب العلم الشرعي؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

اختلف الأصوليون في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟ على أقوال:

فالجمهور على أنه يقتضي الفساد إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لعينه، كالنهي عن نكاح المشركات، وعن النكاح بلا ولي، بخلاف ما نهي عنه لغيره، كالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة، والوضوء بماء مغصوب، والصلاة في الأرض المغصوبة.

ومنهم من قال: بل يقتضي الفساد سواء كان النهي عنه لعينه أو لغيره، مما هو لازم له، وإليه ذهب الحنابلة.

ومنهم من فرق بين العبادات والمعاملات .

ومنهم من قال إن : النهي يقتضي الصحة !

ومنهم من قال: إن النهي لا يقتضي صحة ولا فسادا.

قال المرداوي رحمه الله: "أَصْحَابُنَا وَالْأَكْثَرُ مُطلق النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه يَقْتَضِي فَسَاده ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ من أَقْوَال الْعلمَاء من فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنابلة، والظاهرية، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين، وَغَيرهم.

قَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مَذْهَب الْعلمَاء فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه، كَحَدِيث عَائِشَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد ".

ومثلوا للنَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه، أَي: لذاته كالكفر، وَالْكذب، وَالظُّلم، والجور، وَنَحْوهَا من المستقبح لذاته عقلا عِنْد من يرى ذَلِك.

وَقَالَ الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَبُو الْحُسَيْن وَجمع: مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون غَيرهَا ...

و} قَالَ بعض الْحَنَفِيَّة، والأشعرية ، وَعَامة الْمُعْتَزلَة والمتكلمين: لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا صِحَة.

وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن محققي أَصْحَابهم، كالقفال وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَحَكَاهُ الكيا عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ عَن أَكثر الْفُقَهَاء.

وَقيل: يَقْتَضِي الصِّحَّة، حُكيَ ذَلِك عَن أبي حنيفَة، وَمُحَمّد بن الْحسن؛ لدلالته على تصور الْمنْهِي عَنهُ...

قَوْله: وَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ لوصفه عندنَا ، وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم .

الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام:

أَحدهَا: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لعَينه كَمَا تقدم تمثيله.

الثَّانِي: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لخارج، لكنه لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، كالنهي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد، وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَعَن الرِّبَا ؛ لوصف الزِّيَادَة الْمُقَارن للْعقد اللَّازِم، وَلكَون الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام ضِيَافَة الله، وَهَذَا معنى لَازم لَهَا" انتهى من "التحبير شرح التحرير" (5/ 2286- 2296).

وقال في "شرح الكوكب المنير" (3/ 93): ""وَكَذَا" لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ "لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَـ" النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ بَيْعٍ "بَعْدَ نِدَاءِ جُمُعَةٍ"، وَكَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ ؛ يَعْنِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي فَسَادَهُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَالْجُبَّائِيَّةِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الأَكْثَرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ" انتهى.

ثانيا:

على مذهب الحنابلة ، وهم أكثر الفقهاء توسيعا لقاعدة اقتضاء النهي للفساد، فإنهم لا يطلقون ذلك في كل نهي، بل إذا تعلق النهي بذات العبادة أو المعاملة، أو بشرطهما .

أما إذا كان النهي لأمر خارج لا يتعلق بذات العبادة أو شرطها ، فإنه لا يقتضي الفساد، كما لو لبس عمامة من حرير، فإنه لا تفسد صلاته، لأن النهي لم يعد لذات الصلاة ، ولا لشرطها ، وهو ستر العورة.

وكذا لو صلى وهو حالق للحيته ، أو كان مدخنا، أو كان المكان به صور لذوات الأرواح، أو نجاسة في غير موضع الصلاة.

فهذه المنهيات إذا فعلها الإنسان في صلاته، لم تفسد؛ لأن النهي لم يتوجه لذات الصلاة، ولا لشرط من شروطها .

بخلاف ما لو كان الماء مغصوبا، فهذا يتعلق بشرط الصلاة وهو الطهارة، أو كانت البقعة نجسة أو مغصوبة، أو كان الثوب الذي يستر العورة محرما أو مغصوبا، فهذا يرجع إلى شرط الصلاة وهو طهارة الثوب والمكان وإباحتهما.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

"وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم؟ كما يلي:

1 - أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه، أو شرطه فيكون باطلاً.

2 - أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه، فلا يكون باطلاً.

مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة: النهي عن صوم يوم العيدين.

ومثال العائد إلى ذاته في المعاملة: النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة.

ومثال العائد إلى شرطه في العبادة: النهي عن لبس الرجل ثوب الحرير، فستر العورة شرط لصحة الصلاة، فإذا سترها بثوب منهي عنه، لم تصح الصلاة لعود النهي إلى شرطها.

ومثال العائد إلى شرطه في المعاملة: النهي عن بيع الحمل، فالعلم بالمبيع شرط لصحة البيع، فإذا باع الحمل لم يصح البيع لعود النهي إلى شرطه.

ومثال النهي العائد إلى أمر خارج في العبادة: النهي عن لبس الرجل عمامة الحرير، فلو صلى وعليه عمامة حرير، لم تبطل صلاته؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة ولا شرطها.

ومثال العائد إلى أمر خارج في المعاملة: النهي عن الغش، فلو باع شيئاً مع الغش لم يبطل البيع؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات البيع ولا شرطه" انتهى من "الأصول من علم الأصول" ص29


فتبين بهذا الفرق بين الصلاة في البقعة النجسة أو المغصوبة، وبين الصلاة في مكان به منكر كصور ذوات الأرواح، ففي الأول يعود النهي إلى شرط العبادة وهو طهارة المكان وإباحته، وفي الثاني يعود النهي إلى أمر خارج عن الصلاة وعن شرطها.

ومثل ذلك لو لبس الرجل خاتم ذهب، صحت صلاته، أو توضأ في مكان مغصوب أو من إناء مغصوب؛ لأن ذلك لا يعود إلى ذات الوضوء ولا إلى شرطه وهو الماء.

قال في "كشاف القناع" (1/ 52): "( و ) تصح الطهارة أيضا ( في مكان مغصوب ) بخلاف الصلاة؛ لأن الإناء والمكان : ليسا شرطا للطهارة، فيعود النهي إلى خارج، أشبه ما لو صلى وفي يده خاتم ذهب .

 وأيضا : أفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة، فتحرم ، بخلاف مسألتنا" انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ولو صلى رجل وعليه خاتم الذهب فصلاته صحيحة؛ لأنه لا يتعلق بالصلاة ولا بشرطها، فليس من شرط الصلاة أن تلبس خاتما، ولم يقل: لا تصل وعليك خاتم ذهب" انتهى من "شرح الأصول من علم الأصول" ص186

وقال المرداوي رحمه الله في "تصحيح الفروع" (1/ 160): "وأما إذا كان محرما [أي الشعر الموصول بالرأس] مع طهارته فهو محل الخلاف المطلق:

أحدهما: تصح. قلت: وهو الصواب؛ لأنه لا يعود إلى شرط العبادة، فهو كالوضوء من آنية الذهب والفضة، وكلبس عمامة حرير في الصلاة" انتهى.

وقال في "الإنصاف" (1/ 458): "فائدة: لو لبس عمامة منهيا عنها ، أو تكة ، وصلى فيها : صحت صلاته،  على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ، وجزم به كثير منهم... ولو صلى وفي يده خاتم ذهب، أو دملج، أو في رجله خف حرير: لم تبطل صلاته، على الصحيح من المذهب" انتهى.

وتبين بهذا أن من قال إن النهي يقتضي الفساد لم يجعل ذلك على إطلاقه، وأنه لا تفسد صلاة من حلق لحيته أو شرب الدخان، وكذا لا تفسد قراءته وذكره ودعاؤه؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات العبادة ولا إلى شرطها.

تنبيه:

قد يتوجه النهي إلى ذات المعاملة، ثم لا يحكم بفسادها؛ إذا كان النهي لحق الآدمي يمكن استدراكه، وذلك كالنهي عن تلقي الركبان، وعن المُصَرَّاة، وعن النَّجْش ؛ لأن الشارع أثبت الخيار في جنس هذه الأشياء، وذلك دليل الصحة.

قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " وَحَيْثُ قَالَ أَصْحَابنَا باقتضاء النَّهْي الْفساد، فمرادهم: مَا لم يكن النَّهْي لحق آدَمِيّ يُمكن استدراكه .

فَإِن كَانَ ، وَلَا مَانع ، كتلقي الركْبَان والنجش ؛ فَإِنَّهُمَا يصحان ، على الْأَصَح عندنَا، وَعند الْأَكْثَر؛ لإِثْبَات الشَّرْع الْخِيَار فِي التلقي وعللوه بِمَا سبق. انْتهى" انتهى من "أصول ابن مفلح" (2/744) ، وينظر : "التحبير" (5/ 2301).

ولمزيد تحرير المسألة ، ومعرفة مقاصدها ، وأصولها : ينظر : "شرح مختصر الروضة" ، لنجم الدين الطوفي (2/430-442)، وهو فصل حقيق بالنظر والتأمل في هذا الكتاب المفيد الماتع . وينظر أيضا : "النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيمية" ، تصنيف أبي بكر بن عبد العزيز البغدادي ، ط دار ابن الجوزي ، وهو متاح على الشبكة .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب