الخميس 9 شوّال 1445 - 18 ابريل 2024
العربية

حديث الآحاد هل يفيد الظن أو القطع ومذهب الطبري وابن تيمية في ذلك

السؤال

بالأمس دار نقاش بيني وبين أحد منكري السنة، فذكر لي أن الطبري وابن تيمية ـ رحمهما الله تعالى ـ أنهما قالا : إن الأحاديث ظنية الثبوت عن النبي صلى الله عليه وسلم غير قطعية، ومن ضمن شبهاته أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، بل هي ظنية الثبوت، أرجو توضيح هذه الشبهة، والرد عليها.

ملخص الجواب

عامة أهل الإسلام على قبول حديث الآحاد في أحكام الحلال والحرام، وجمهورهم –وهو قول أهل السنة- على قبوله في العقائد كذلك، وأن مسألة الظنية والقطعية لا تنافي وجوب تصديقه والعمل به.

الحمد لله.

أولا: عدم الأخذ بأحاديث الآحاد يؤدي إلى تعطيل أكثر السنة النبوية 

إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله والعمل به، دون تفريق بين آحاد ومتواتر.

هذا مذهب الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، يقبلون الحديث إذا صح سنده، ويعملون به، ولا يتوقفون في ذلك.

ومن رد حديث الآحاد ردّ أكثر السنة، فإن أكثرها آحاد، وهذا مصادم لقوله تعالى:  وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا  الحشر/7.

فهذا أمر قرآني بأخذ ما جاء عن الرسول صلى الله عليه، فلا يمكن حمله على المتواتر الذي هو قليل محصور، لا يستوعب العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق.

ففي الدعوة إلى رد الآحاد: دعوة إلى ترك أكثر السنة وتعطيل الأمر بهذه الآية.


ثانيا: المراد بـ " الأحاديث قطعية الثبوت " 

الأحاديث قطعية الثبوت يقصد بها الأحاديث المقطوع بصحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي أربعة أنواع :

النوع الأول : الأحاديث المتواترة .

النوع الثاني : ما أخرجه البخاري ومسلم وتلقته الأمة بالقبول.

النوع الثالث من الأحاديث قطعية الثبوت : ما أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول ولو لم يكن في الصحيحين ؛ لما تقدم من أن الأمة معصومة من الخطأ في إجماعها .

النوع الرابع : الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها .

وانظر بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (197164).

وعليه: فالزعم بأن الآحاد مطلقا ليس قطعيا: غير صحيح، بل الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول، أو استفاض وجاء من وجوه كثيرة ، لم تبلغ التواتر: هو قطعي الثبوت.


ثالثا: تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد، لا يعني التشكيك في الآحاد

قد بينا في جواب السؤال رقم:(126571) أن تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد، لا يعني التشكيك في الآحاد، وأن حصول العلم بالحديث المتواتر لا ينافي الاعتماد على الآحاد وقبوله، وضربنا لذلك مثلا يوضحه، فراجعه.


رابعا: أجمع أهل السنة على قبول الآحاد في العقائد

أجمع أهل السنة على قبول الآحاد في العقائد، حتى لو كان يفيد الظن، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع من المعتزلة ومن نحا نحوهم.

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل جميعاً، أم يوجب العمل دون العلم.

والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا، ولا خلاف فيه.

وقال قوم كثير من أهل الأثر، وبعض أهل النظر: إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خويز منداد أن هذا القول يخرّج على مذهب مالك.

قال أبو عمر: الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء.

وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا، وبالله توفيقنا" انتهى من "التمهيد" (1/ 7).

وقال رحمه الله: " وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع.

على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا؛ إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافا" انتهى من "التمهيد" (1/ 2).

فسواء قيل إن الآحاد يفيد الظن أو العلم، فإنه يجب قبوله والعمل به في الأحكام والعقائد سواء.


خامسا: منهج الإمام الطبري رحمه الله في أحاديث الآحاد 

لا يخرج منهج الطبري رحمه الله عما ذهب إليه ابن عبد البر، فهو يرى أن الآحاد لا يفيد العلم، لكن يجب تصديقه والعمل به، ولو كان في العقيدة، وقد سار على ذلك في مؤلفاته رحمه الله.

قال رحمه الله: " فإن كان الخبر الوارد بذلك خبراً تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع، وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع.

وإن كان الخبر الوارد خبراً لا يقطع مجيئه العذر، ولا يزيل الشك ؛ غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة: وجب على سامعه تصديقه في خبره، في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار الآحاد العدول، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته" انتهى من "التبصير في معالم الدين" (ص139).

وقال رحمه الله: " وذلك أن الذي تنتهي إليه الشريعة التي أودعها الرسول صلى الله عليه وسلم من أودعها إياه، لن يخلو من أحد أمرين:

1-إما أن يكون الذي أنهى إليه ذلك واحدا أو جماعة في معنى الواحد، بأنهم لا يقطعون عذر من أبلغوه الشريعة.

2-وإما أن يكونوا جماعة يقطع خبرهم عذر من بلغه.

فإن كان الذي أبلغه ذلك واحدا ، أو جماعة بمعنى الواحد ، في أنهم لا يقطعون عذر من أبلغوه الشريعة ؛ فإنه :

إن لم يكن فيهم عدل صادق، فغير لازمه العمل ، ولا العلم بخبرهم.

وإن كان فيهم عدل صادق: فإنما يوجب خبره الذي أبلغه من أبلغ ذلك، العمل دون العلم" انتهى من "تهذيب الآثار" (2/ 768).

وقال رحمه الله: " فمنه: ما ينقله الواحد العدل أو الجماعة التي لا يوجب مجيئها العلم، ولا يقطع ورودها العذر، وإن لزم الواردَ ذلك عليه بوروده : التصديقُ به.

ومنه: ما ينقله من يوجب وروده - لمن ورد عليه - العلم بما ورد به، ويقطع مجيئه العذر: وذلك نقل الجماعة التي ينتفي عنها السهو والخطأ، ويمنع من نقلها - فيما نقلت - الكذب}" انتهى من تهذيب الآثار، مسند طلحة والزبير، ص439

وقال رحمه الله: " لا خبر فيما ذكرت ، أو لم أذكر ، يصح سنده بنقل الثقات العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إلا وهو عندنا حق، والدينونة به للأمة لازمة" انتهى من "تهذيب الآثار" (2/ 713).

فهو رحمه الله يوجب العمل والتصديق بخبر الواحد، ويلزم الأمة أن تدين به، دون تفريق بين الأحكام وغيرها.

وينظر: "أصول الدين عند الإمام الطبري"، للدكتور طه محمد نجا، ص61، "منهج الإمام ابن جرير الطبري في نقد الأحاديث"، للدكتورة نبيلة بنت زيد بن سعد (2/707).


خامسا: رأي ابن تيمية في العمل بأحاديث الآحاد 

أما ابن تيمة رحمه الله فإنه يرى أن حديث الآحاد إذا احتفت به القرائن أوجب العلم. وهو يحتج بالآحاد مطلقا في إثبات الأحكام والعقائد على السواء.

قال رحمه الله: " ولهذا كان الصحيح : أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم. وعلى هذا ؛ فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث ، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلَمُ علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، تارة لتواتره عندهم ، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول.

وخبر الواحد المتلقَّى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء ، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك ؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن ؛ لكن لمَّا اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق ، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكمٍ ، مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد ؛ فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور ، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم .

فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يُجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال ، كذلك أهل العلم بالحديث ، لا يُجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق .

وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار ، توجب لهم العلم ، ومَن عَلِمَ ما عَلِمُوه ، حَصَلَ له مِن العلم ما حصل لهم " انتهى من " مجموع الفتاوى " (18/40-41) .

والحاصل :

أن عامة أهل الإسلام على قبول حديث الآحاد في أحكام الحلال والحرام، وجمهورهم –وهو قول أهل السنة- على قبوله في العقائد كذلك، وأن مسألة الظنية والقطعية لا تنافي وجوب تصديقه والعمل به.

وانظر في حكم منكر السنة: جواب السؤال رقم : (115125).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب