أهلها كفار وهجرها زوجها وهي حامل فلم ينفق عليها !
لدى سؤال يتعلق بقضية شائعة ، ما هي مسئولية المجتمع عندما يعلم بقيام زوج بهجر زوجته الحامل تماما ، فهو لا يقوم بإعالة زوجته ماديّاً على الإطلاق ، وليس هناك وكيل للزوجة ؛ لأنها تنحدر من أسرة كافرة ، فهل يجوز للمجتمع الذي ينتمي إليه كلا من الزوج والزوجة عند علمه بتلك الظروف أن يدير رأسه ويقول ليس بوسعنا القيام بشيء لأننا نعيش ببلد كافر ؟ فقد سمعت بمجتمعات تقوم بإبعاد المسلمين الذين يداومون على ارتكاب المعاصي والابتعاد عنهم ، أليست هي مسئولية الأمة أيضا أن تحمل الرجال ( الحافظين والعائلين ) مسئولية تصرفاتهم عندما يذنبون أو يظلمون نساءهم وأطفالهم ؟ ما هي التدابير التي يمكن اتخاذها ، وما الذي يجب القيام به ؟ .
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
نأسف أن يوجد في المسلمين من لا يتخلق بأخلاق الإسلام ، ونأسف أن يكون هؤلاء في دول
الكفر ، فتتعدى إساءتهم إلى أن تصل للإسلام نفسه ، ورحم الله من مات من تجار
المسلمين ، والذين أدخلوا بأخلاقهم الإسلامية العالية أمماً في الإسلام ، فكانوا
أنموذجاً يُفتخر به في التاريخ .
وما أكثر المسلمين اليوم في دول الكفر ، ولو أن كل واحد من هؤلاء كان يحمل الإسلام
بتعاليمه الصحيحة ، وكان أنموذجاً للمسلم التقي النقي : لرأيت تحولاً عظيماً في
الأرض ، فلو أدخل كل واحد من أولئك المسلمين شخصاً واحداً في الإسلام كل عام :
لرأيت أثر ذلك على الأرض بما لم يُسمع به في تاريخ الأديان ، ولكن أنَّى ذلك وهم
يجهلون تعاليم الإسلام نظراً ، ومَن عَلِمَها منهم فإنه لا يقوم به عملاً ، إلا من
رحم الله منهم .
والزوج المسلم بدلاً من أن يكون متصفاً بالأخلاق الإسلامية العالية ، ويكون سبباً
في دخول زوجته وأسرتها في الإسلام : أصبح كثير منهم منفِّراً عن الإسلام بأخلاقه
وسلوكه ، فمنهم من يتزوج بنية الطلاق ، حتى إذا شبع منها وانتهت دراسته ألقى زوجته
، ومنهم من يتزوج بقصد الحصول على إقامة أو منحة دراسية ، فإذا حصَّل ذلك هجرها ،
وأما عن معاملاتهم لزوجاتهم فحدِّث عن ذلك ولا حرج ، وليته كان زوجاً صالحاً ، يقوم
بما أوجبه الله عليه من الفرائض ، ويتخلق بأخلاق الإسلام : إذاً لكان خيراً له دنيا
وأخرى .
ثانياً:
وإن مِن أعظم حقوق الزوجة على زوجها النفقة عليها ، وبذلك استحق القوامة .
قال الله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )
النساء/ 34
.
قال الإمام الطبري – رحمه الله - :
يعني بقوله جل ثناؤه : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) : الرجال ، أهل
قيام على نسائهم ، في تأديبهن ، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم .
( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) يعني : بما فضّل الله به الرجال
على أزواجهم : من سَوْقهم إليهنّ مهورهن ، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم ، وكفايتهم
إياهن مُؤَنهنّ ، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ ، ولذلك صارُوا
قُوّامًا عليهن ، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن .
" تفسير الطبري " ( 8 / 290 )
.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ
زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ ،
وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ ، وَلَا تُقَبِّحْ ،
وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ .
رواه أبو داود ( 2142 ) وابن ماجه ( 1850 )
، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال ابن رشد القرطبي - رحمه الله -
:
واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج : النفقة ، والكسوة ؛ لقوله تعالى : (
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )
الآية ؛ ولما ثبت من قوله عليه
الصلاة والسلام : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ؛ ولقوله لهند : ( خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف ) فأما النفقة : فاتفقوا على وجوبها .
" بداية المجتهد ونهاية المقتصد " ( 2 / 44
) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 16 / 274 ) :
تجب النّفقة والسّكنى للحامل المطلّقة طلاقا رجعيّا أو بائنا حتّى تضع حملها ، وذلك
باتّفاق الفقهاء ؛ لقوله تعالى ( وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) .
انتهى
والزوجة الحامل تتأكد نفقتها على زوجها حتى لو طلقها ! فكيف وهي زوجة لم تُطلَّق ؟!
.
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) الطلاق/ 6
.
بل حتى لو أبرأت زوجها من حقوقها ثم تبين حملها : فإن الإنفاق عليها لا يدخل في
الإبراء !
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
في امرأة طلَّقها زوجها ثلاثاً ، وأبرأت الزوج من حقوق الزوجة قبل عِلمها بالحمل ،
فلما بانَ الحمل : طالبت الزوج بفرض الحمل ، فهل يجوز لها ذلك أم لا ؟ .
فأجاب :
إذا كان الأمر كما ذكر : لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء ، وكان لها أن تطلب نفقة
الحمل .
" مجموع الفتاوى " ( 32 / 361 )
.
وعليه : فإن للزوجة حق النفقة على زوجها ، لها ولحملها ، وما تنفقه على نفسها أثناء
قطع زوجها النفقة عليها : يبقى دينا في ذمته ، وعلى من بيده الأمر أن يجبره على دفع
المال لزوجته بما أنفقته وبما يأتي ، ويجوز لمن تمكَّن من ماله أن يأخذه منه للنفقة
ولو من غير إذنه أو من غير اختياره ؛ لأن هذا حق زوجته في ماله ، وقد أذن النبي صلى
الله عليه وسلم للزوجة أن تأخذ من مال لزوجها دون علمه للإنفاق على نفسها وعلى
أولادها .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي
إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَقَالَ : ( خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ) .
رواه البخاري ( 5049 ) ومسلم ( 1714 )
.
ثالثاً:
هجر هذا الزوج لزوجته لا يُعرف سببه ، والهجر مشروع إذا وُجدت أسبابه من المرأة
كفعل معصية أو ترك واجب ، أو لنشوزها على زوجها ، على أن يكون الهجر بعد وعظها
وتذكيرها بحكم فعلها .
قال تعالى : ( وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً )
النساء/ من الآية 34
.
ومن العلماء من يرى أن الهجر لا يكون بخروجه من البيت ، بل يهجر في المضجع ، وقد
سبق الدليل على ذلك من حديث معاوية القشيري ، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم
نساءه بخروجه من البيت ، وذلك يختلف تبعاً لما يراه الزوج مؤثراً في زوجته .
وقد نقل الخلاف في هذه المسألة : الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ثم قال :
والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال ، فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران
في غيرها ، وبالعكس ، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس ، وخصوصا
النساء لضعف نفوسهن .
" فتح الباري " ( 9 / 301 ) .
وفي كل الأحوال : لا يقطع الزوج
النفقة عنها وهي في بيته تمكنه من نفسها ، أما إن نشزت وخرجت من بيته ، فتلك التي
لا تستحق النفقة ، وأما ما في بطنها من حمل فإن له نفقة على أبيه ، ولو كانت الزوجة
ناشزا ؛ لأن نفقة الحامل لحملها لا لها ، وهو قول المالكية ، وقول عند الشافعية ،
وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ، كما في
" الموسوعة الفقهية " ( 16 / 274 )
.
وها نحن بينَّا للناس جميعاً أن الشرع قد كفل حق الزوجة ، وأمر زوجها بمعاشرتها
بالمعروف ، وأنها إن قصرت في واجب ، أو فعلت معصية : فإن زوجها يعظها قبل أن يهجرها
، وأنه لو هجرها فلا يحل له ترك النفقة عليها ، إلا أن تنشز وتخرج من بيته ، وإن
كانت حاملاً وهي في بيت الزوجية فتتأكد نفقتها ، وإن كانت في غير بيته لنشوزها فلا
تنقطع نفقة ما في بطنها .
وعلى من قدر أن يكلم الزوج وينصحه أن لا يقصِّر في ذلك ، ويطالب الزوج إما بإمساكها
بمعروف ، أو تسريحها بإحسان ، ولا يحل له أن يجعلها معلَّقة ، لا هي متزوجة ولا هي
مطلَّقة .
ويجب في ماله نفقة زوجته ، ولو أخذ المال منه بالإجبار والإكراه ، فتؤخذ النفقة
التي بذلتها الزوجة من وقت قطعها عنها ، ويلزم بالاستمرار في الإنفاق عليها .
ولا يحل لأحدٍ يستطيع وضع الأمور في نصابها أن يتخلى عن الزوجة ، وبما أن أهلها من
الكفار : فإنه يتحتم على المسلمين حولها الاهتمام بها أكثر ، حفاظاً على دينها ،
ونصرة للمظلوم .
إن اهتمام المجتمع بأزمة المأزوم ، وحاجة المحتاج ، وشكوى المضطر ، ليس جزءا كماليا
، إن قام به فقد أحسن صنعا ، وإن لم يقم لم يستحق اللوم ؛ بل إنه جزء من حقيقة
إسلام المسلم ، وصبغة المجتمع السليم في الإسلام . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ
وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )
رواه البخاري (6011) ومسلم (2586)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : الَّذِي يَظْهَر أَنَّ التَّرَاحُم وَالتَّوَادُد
وَالتَّعَاطُف وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنَى لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْق
لَطِيف , فَأَمَّا التَّرَاحُم فَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَرْحَم بَعْضهمْ بَعْضًا
بِأُخُوَّةِ الْإِيمَان لَا بِسَبَبِ شَيْء آخَر , وَأَمَّا التَّوَادُد
فَالْمُرَاد بِهِ التَّوَاصُل الْجَالِب الْمَحَبَّة كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي
, وَأَمَّا التَّعَاطُف فَالْمُرَاد بِهِ إِعَانَة بَعْضهمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِف
الثَّوْب عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ ا ه مُلَخَّصًا .
وقَوْله : ( كَمَثَلِ الْجَسَد ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع أَعْضَائِهِ ,
وَوَجْه التَّشْبِيه فِيهِ التَّوَافُق فِي التَّعَب وَالرَّاحَة .
وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : شَبَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْإِيمَان بِالْجَسَدِ وَأَهْله بِالْأَعْضَاءِ , لِأَنَّ الْإِيمَان
أَصْل وَفُرُوعه التَّكَالِيف , فَإِذَا أَخَلَّ الْمَرْء بِشَيْءٍ مِنْ
التَّكَالِيف شَانَ ذَلِكَ الْإِخْلَالُ الْأَصْلَ , وَكَذَلِكَ الْجَسَد أَصْل
كَالشَّجَرَةِ وَأَعْضَاؤُهُ كَالْأَغْصَانِ , فَإِذَا اِشْتَكَى عُضْو مِنْ
الْأَعْضَاء اِشْتَكَتْ الْأَعْضَاء كُلّهَا كَالشَّجَرَةِ إِذَا ضُرِبَ غُصْن مِنْ
أَغْصَانهَا اِهْتَزَّتْ الْأَغْصَان كُلّهَا بِالتَّحَرُّكِ وَالِاضْطِرَاب . "
انتهىمن فتح الباري
.
إن إعالة الفقير والمسكين وذي الحاجة ، هي حصة أساسية في مال المسلم ، وهي فريضة
واجبة على المجمتع الذي يعيش فيه . قال الله تعالى ، في صفات المؤمنين التي مدحهم
بها :
( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع )
رواه البخاري في الأدب المفرد (112) وصححه الألباني
.
فنسأل الله تعالى أن يهديه لما فيه صلاحه وصلاح بيته ، وأن يصبر الأخت على ما
ابتلاها ربها بها ، ولتبشر بالأجور الوافرة إن هي صبرت واحتسبت مصيبتها ، ولتدع
ربها تعالى أن يفرج عنها ، وأن يختار لها الأصلح لدينها ودنياها .
والله أعلم