هل وقع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاةٍ وهو جنب ناسيا ؟
نريد جوابا شافيا عن هذا الحديث :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة ، فلما كبر انصرف وأومأ إليهم أن كما كنتم . ثم خرج فاغتسل ، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم . فلما صلى قال : ( إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ) رواه أحمد .
الجواب
الحمد لله.
أولا :
رُويت هذه الحادثة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في كتب السنة ، وحاصلها أن
الناس حين أتموا صفوفهم للصلاة وراءه صلى الله عليه وسلم ، وقام منهم مقام المصلي
بهم ، تذكَّر أنه كان جنبا ، فأشار إليهم ليبقوا في أماكنهم ، وانصرف واغتسل وأتاهم
ورأسه يقطر ماء.
ولكن وقع اختلاف في الروايات :
هل كَبَّر النبي صلى الله عليه وسلم ثم تذكَّر أنه جنب ، أم تذكر قبل تكبيرة
الإحرام ؟
ومحصل الروايات فيها على الأوجه الآتية :
1- لفظ صريح في أنه تذكر الجنابة قبل الشروع في الصلاة :
يروي هذا اللفظ عبد الله بن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه ، كما هو في صحيح مسلم (605) ، وهذا لفظه :
( أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَقُمْنَا فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ
إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ
قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ ، ذَكَرَ فَانْصَرَفَ ، وَقَالَ لَنَا : مَكَانَكُمْ ،
فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا نَنْتَظِرُهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا وَقَدْ اغْتَسَلَ ،
يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَكَبَّرَ فَصَلَّى بِنَا ) .
وصالح بن كيسان عن الزهري – كما عند البخاري (639) – بلفظ : ( حَتَّى إِذَا قَامَ
فِي مُصَلاَهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ ، انْصَرَفَ ، قَالَ : عَلَى
مَكَانِكُمْ ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُ
رَأْسُهُ مَاءً ،وَقَدْ اغْتَسَلَ ) .
2- لفظ صريح في أنه كبر ودخل في الصلاة ثم تذكر أنه جنب :
وهذا يرويه أسامة بن زيد عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن محمد بن عبد
الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضى الله عنه – كما عند ابن ماجه في "السنن" (1220)
والدارقطني (1/361) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/397) – ولفظه :
( خرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَكَبَّرَ
، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ ، فَمَكَثُوا ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَاغْتَسَلَ ، وَكَانَ
رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ، فَصَلَّى بِهِمْ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إِنِّي
خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ جُنُبًا ، وَإِنِّي نَسِيتُ حَتَّى قُمْتُ فِي الصَّلَاةِ ) .
غير أن هذه الطريق فيها ضعف من قبل أسامة بن زيد الليثي ، أبو زيد المدني ، جاء في
ترجمته في "تهذيب التهذيب" (1/209) : " تركه يحيى بن سعيد بآخره ، قال أحمد : ليس
بشيء . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال
ابن حبان : يخطئ وهو مستقيم الأمر صحيح الكتاب "
انتهى بتصرف واختصار
. ولم يرد توثيقه إلا عن يحيى بن معين ، مع أن في رواية أخرى عنه أنه قال فيه:
أنكروا عليه أحاديث.
وجاء هذا اللفظ أيضا من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (كَبَّرَ بِهِمْ فِي
صَلاةِ الصُّبْحِ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ انْطَلَقَ ، فَرَجَعَ وَرَأْسُهُ
يَقْطُرُ ، فَصَلَّى بِهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنِّي كُنْتُ
جُنُبًا فَنَسِيتُ )
رواه الطبراني في "الأوسط" (5/317) وفي
"الصغير" (2/74) وقال : لم يروه عن
ابن عون إلا الحسن بن عبد الرحمن تفرد به أبو الربيع الحارثي .
ورواه البيهقي أيضا (2/398)
،
ولكنَّ وصلَ هذه الرواية خطأ ، والصواب : عن محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وذلك لدليلين اثنين :
الأول : مخالفة الثقات من أصحاب ابن عون رواية الحسن بن عبد الرحمن . فقد قال
البيهقي : " ورواه إسماعيل بن علية وغيره عن ابن عون عن محمد عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلا ، وهو المحفوظ " انتهى
.
الثاني : متابعة آخرين لابن عون بروايته مرسلا : قال أبو داود (233) : " وَرَوَاهُ
أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ مُرْسَلاً عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عليه وسلم " انتهى
.
وقال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1306) : " وكذلك رواه أيوب ، وهشام عن محمد
، مرسلا ، ورواه الحسن بن عبد الرحمن الحارثي عن ابن عون ، عن محمد ، عن أبي هريرة
، مسندا ، والأول أصح " انتهى
.
وقد جاءت بعض الشواهد في أحاديث أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم تذكر الجنابة بعد
أن كبر ودخل في الصلاة :
1- عَنْ الحسن عن أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ
مَكَانَكُمْ ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَصَلَّى بِهِمْ ) .
رواه أبو داود (233) وأحمد (5/41) وابن
خزيمة (3/62) وابن حبان (6/5) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/94) والطحاوي في
"بيان مشكل الآثار" (2/86) وفي بعض
ألفاظه : ( وكبَّر )
قال ابن رجب في "فتح الباري" (3/599) : " وحديث الحسن عن أبي بكرة في معنى المرسل ؛
لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين "
انتهى
.
2- عن أنس بن مالك قال : ( دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى
صَلاَتِهِ ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرْنَا مَعَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْقَوْمِ :
كَمَا أَنْتُمْ . فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَدِ اغْتَسَلَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ) .
رواه الدارقطني (1/362) والطبراني في
"الأوسط" (4/92) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/399)
من طريق معاذ العنبري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس به .
وقد روي هذا الحديث مرسلا عن قتادة عن بكر بن عبد الله المزني .
3- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ : ( صَلَّى بِنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَانْصَرَفَ ، ثُمَّ جَاءَ
وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ، فَصَلَّى بِنَا ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي صَلَّيْتُ
بِكُمْ آنِفًا وَأَنَا جُنُبٌ ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنِي أَوْ
وَجَدَ رِزًّا فِي بَطْنِهِ فَلْيَصْنَعْ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ )
رواه أحمد (1/99) والطبراني (6/272) والبزار
(890) وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه ضعف. قال الطبراني في "الأوسط"
(6/272) : لا يروى هذا
الحديث عن علي إلا بهذا الإسناد ، تفرد به ابن لهيعة .
4- عن عطاء بن يسار : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي
صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنِ امْكُثُوا ،
فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَعَلَى جِلْدِهِ أَثَرُ الْمَاءِ )
رواه مالك في الموطأ (1/48/رقم 110) بسند
صحيح إلى عطاء وهو من التابعين .
قال البيهقي في "السنن الكبرى" (2/398) :
" ورواية أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أصح من رواية ابن ثوبان عنه ، إلا أن
مع رواية ابن ثوبان عنه رواية أبي بكرة مسندة ، ورواية عطاء بن يسار وابن سيرين
مرسلة ، وروي أيضا عن أنس بن مالك " انتهى
.
والخلاصة : أنه لما اجتمعت هذه الطرق الكثيرة على الرواية التي فيها إثبات تكبير
النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة قبل تذكره الجنابة ، وخاصة المراسيل
الصحيحة عن ابن سيرين وبكر المزني وعطاء بن يسار ، كل ذلك يدل على صحة الحادثة
ووقوعها ، وأنه لا تعارض بينها وبين رواية أبي هريرة لها بأن ذلك كان قبل التكبير ،
إذ يمكن تكرار الحادثة ، ووقوعها مرة هكذا ومرة هكذا ، وبهذا يمكن توجيه اختلاف
الروايات .
قال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (6/7) :
" هذان فعلان في موضعين متباينين ، خرج صلى الله عليه وسلم مرة فكبر ثم ذكر أنه جنب
فانصرف فاغتسل ثم جاء فاستأنف بهم الصلاة .
وجاء مرة أخرى فلما وقف ليكبر ذكر أنه جنب قبل أن يكبر ، فذهب فاغتسل ثم رجع فأقام
بهم الصلاة . من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاتر "
انتهى
.
وقال النووي في "شرح مسلم" (5/103) :
" ويحتمل أنهما قضيتان ، وهو الأظهر " انتهى
.
وليس فيه أي إشكال والحمد لله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر ، ينسى كما ينسى
الناس ، وقد سهى في صلاته مرات عديدة ، ولم ينكر أحد من أهل العلم ذلك ، غير أنهم
قالوا إنه معصوم عن نسيان شيء من الوحي نسيانا تاما بحيث يترتب عليه ضياعه .
ثانيا :
أما عن فقه الحديث وما يستنبط منه :
ففيه دليل على أنه إذا صلى الإمام بالناس على غير طهارة نسيانا ، فإن صلاة
المأمومين لا تتأثر ، وتبقى على صحتها وإجزائها ، وأن الإمام هو الذي يؤمر بالإعادة
فقط ، دون المأمومين .
وجهُ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع فاغتسل ثم جاء فكبر لصلاته ، والناس
وراءه على صفوفهم وفي صلاتهم ، لم يأمرهم أن يعيدوا معه التكبير .
قال ابن رجب في "فتح الباري" (3/600-602) :
" وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام
وهو ناس لجنابته ، فلم يبق إلا أحد وجهين :
أحدهما : أن يكون صلى الله عليه وسلم لما رجع كبر للإحرام ، وكبر الناس معه .
والثاني : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استأنف تكبيرة الإحرام ، وبنى الناس
خلفه على تكبيرهم الماضي .
وهذا هو الذي أشار إليه الشافعي ، وجعله عمدة على صحة صلاة المتطهر خلف إمام صلى
محدثاً ناسياً لحدثه .
قال ابن عبد البر : وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب مالك .
وعن الإمام أحمد في ابتداء المأمومين وإتمامهم الصلاة إذا اقتدوا بمن نسي حدثه ، ثم
علم به في أثناء صلاته – روايتان .
وروي عن الحسن ، أنهم يتمون صلاتهم .
ومذهب الشافعي : لا فرق بين أن يكون الإمام ناسياً لحدثه أو ذاكراً له إذا لم يعلم
المأموم ، أنه لا إعادة على المأموم .
وهو قول ابن نافع من المالكية ، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور فقهاء الأمصار وأهل
الحديث .
وعن مالك وأحمد : على الماموم الإعادة .
وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري- في أشهر الروايتين عنه - : يعيد
المأموم وإن كان الإمام ناسياً ولم يذكر حتى فرغ من صلاته "
انتهى باختصار
.
وفي موقعنا مجموعة من الإجابات التي تبين صحة صلاة المأموم إذا تبين حدث الإمام ،
وأن الإعادة إنما هي على الإمام فقط ، دون المأمومين : (27091)
، (85011) .
والله أعلم .