سجود التلاوة يسن للقارئ والمستمع دون السامع
ما حكم قراءة القرآن جماعة ، وسجود تلاوة جماعة للذين يقرؤون، والذين لا يقرؤون القرآن؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
قراءة القرآن جماعة على صوت واحد ، ليس مشروعا ؛ لعدم وروده في السنة ، والأصل في
العبادة التوقيف ، حتى يدل الدليل الصحيح على المشروعية ، في أصل العبادة ووصفها
وزمانها ومكانها وعددها ، فلا تخص العبادة بشيء من ذلك إلا بدليل .
قال الشاطبي رحمه الله : " فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي
الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ... ومنها التزام
الكيفيات والهيآت المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة
النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ، وما أشبه ذلك .
ومنها التزام العبادات المعينة ، في أوقات معينة ، لم يوجد لها ذلك التعيين في
الشريعة ، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان ، وقيام ليلته "
انتهى من "الاعتصام" (1/37-39).
وإذا كان بصوت مرتفع يشوش على الذاكرين والجالسين ، كان أشد كراهة ، لعوم قوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي
الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ مَا يُنَاجِي
رَبَّهُ وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ )
رواه أحمد (4928) وصححه شعيب الأرنؤوط في
تحقيق المسند .
وأما إن كان أحد الجماعة يقرأ ، والباقون يستمعون لقراءته ، أو يتناوبون القراءة
فيما بينهم ، وهو ما يعرف بالإدارة بالقراءة ، أو كان الجماعة في المسجد ، وكل منهم
يقرأ لنفسه ، لا يشوش أحدهم على صاحبه ، ولا يوافقه بقراءته ، فهذا لا بأس به ، بل
هو قربة مشروعة ، محبوبة لله تعالى .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ
اللَّهِ ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ، إِلَّا
نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ
الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )
رواه مسلم (2699)
.
قال الإمام النووي رحمه الله :
" فصل : في استحباب قراءة الجماعة مجتمعين ، وفضل القارئين من الجماعة والسامعين ،
وبيان فضيلة من جمعهم عليها ، وحرَّضهم وندبهم إليها " ثم قال : " اعلم أن قراءة
الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهر " ، ثم ذكر
الحديث السابق ، وما أشبهه .
انظر : التبيان في آداب حملة القرآن (72-74)
ثم ذكر بعده فصلا في " الإدارة بالقرآن " ، قال :
" وهو أن يجتمع جماعة يقرأ بعضهم عشرا أو جزءا أو غير ذلك ، ثم يسكت ويقرأ الآخر من
حيث انتهى الأول ، ثم يقرأ الآخر ، وهذا جائز حسن ؛ وقد سئل مالك رحمه الله تعالى
عنه فقال : لا بأس به " . التبيان (74)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ ، وَاسْتِمَاعِ كِتَابِهِ ، وَالدُّعَاءِ :
عَمَلٌ صَالِحٌ ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي
الْأَوْقَاتِ . فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ
: إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمِ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَفِيهِ وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك .
لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
وَالْأَمْكِنَةِ فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافَظُ عَلَيْهَا إلَّا مَا
سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي
الْجَمَاعَاتِ ، مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَمِنْ
الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ
الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ
اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ : فُعِلَ
كَذَلِكَ ، وَمَا سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ
الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رضي الله عنهم -
يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا : يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ
يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : يَا أَبَا مُوسَى
ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ ، وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ
مَنْ يَقُولُ : اجْلِسُوا بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً . وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ وَخَرَجَ عَلَى
الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ قَارِئٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ
يَسْتَمِعُ " . مجموع الفتاوى (22/521)
.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/112) : " ما حكم قراءة القرآن في المسجد جماعة ؟
الجواب : السؤال فيه إجمال ، فإذا كان المقصود أنهم يقرؤون جميعاً بصوت واحد ومواقف
ومقاطع واحدة : فهذا غير مشروع ، وأقل أحواله الكراهة ، لأنه لم يؤثر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم ، لكن إذا كان ذلك من أجل
التعليم فنرجو أن يكون ذلك لا بأس به .
وإن كان المقصود أنهم يجتمعون على قراءة القرآن لحفظه أو تعلمه ، ويقرأ أحدهم وهم
يستمعون ، أو يقرأ كل منهم لنفسه غير ملتق بصوته ، ولا بموافقة مع الآخرين : فذلك
مشروع ، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( وما اجتمع قوم في بيت
من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم
الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده )
رواه مسلم " انتهى.
وجاء فيها أيضا (2/480) : " الاجتماع لتلاوة القرآن ودراسته بأن يقرأ أحدهم ويستمع
الباقون ويتدارسوا ما قرؤوه ، ويتفهموا معانيه ، مشروع وقربة يحبها الله , ويجزي
عليها الجزاء الجزيل ، فقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود ، عن أبي هريرة رضي الله
عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون
كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة وحفتهم
الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) " انتهى
.
ثانيا :
سجود التلاوة يسن للقارئ والمستمع ، دون السامع الذي يسمع بلا إصغاء أو قصد .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (1/361) : " ويسن السجود للتالي والمستمع ، لا
نعلم في هذا خلافا . وقد دلت عليه الأحاديث التي رويناها . وقد روى البخاري , ومسلم
, وأبو داود , عن ابن عمر , قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا
السورة في غير الصلاة , فيسجد , ونسجد معه , حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته
.
فأما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له , وروي ذلك عن عثمان , وابن عباس ,
وعمران ، وبه قال مالك . وقال أصحاب الرأي : عليه السجود . وروي نحو ذلك عن ابن عمر
, والنخعي , وسعيد بن جبير , ونافع , وإسحاق ; لأنه سامع للسجدة , فكان عليه السجود
كالمستمع . وقال الشافعي : لا أؤكد عليه السجود , وإن سجد فحسن .
ولنا ما روي عن عثمان رضي الله عنه : أنه مر بقاص , فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان
معه , فلم يسجد . وقال : إنما السجدة على من استمع . وقال ابن مسعود , وعمران : ما
جلسنا لها . وقال سلمان : ما عدونا لها . ونحوه عن ابن عباس , ولا مخالف لهم في
عصرهم نعلمه إلا قول ابن عمر : إنما السجدة على من سمعها . فيحتمل أنه أراد من سمع
عن قصد , فيحمل عليه كلامه جمعا بين أقوالهم ; ولا يصح قياس السامع على المستمع ,
لافتراقهما في الأجر " انتهى
.
والله أعلم .