ما معنى إسباغ الوضوء على المكاره ؟ هل المقصود استخدام الماء البارد في الشتاء مع إمكانية استخدام الماء الدافىء ؟
الحمد لله.
أولا :
ورد في فضل تحمل مشقة الوضوء حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ , وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ , وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ , فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ , فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ) رواه مسلم ( 251 ) .
قال النووي رحمه الله :
" ( إسباغ الوضوء ) : تمامه . و ( المكاره ) تكون بشدة البرد ، وألم الجسم ، ونحو ذلك " انتهى .
"شرح مسلم" (3/141) .
وروى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/359) بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه وصى ابنه عند موته فقال له : " أي بني ! عليك بخصال الإيمان ". قال : وما هي ؟ قال : " الصوم في شدة الحر أيام الصيف ، وقتل الأعداء بالسيف ، والصبر على المصيبة ، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي ، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم ، وترك ردغة الخبال " ، قال : وما ردغة الخبال ؟ قال : " شرب الخمر " .
وقد بين أهل العلم أن ذلك لا يعني قصد المشقة وتطلبها ، فالمشقات ليست من مقاصد الشريعة ولا من مراد الشارع ، ولكن إذا لم يتيسر سبيل العبادة إلا بوقوع المشقة ، فيعظم الأجر في هذه الحالة ، وفرق بين الأمرين .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( إسباغ الوضوء على المكاره ) يعني : أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه ، إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون الجو باردا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره ، المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة ، لكن بدون ضرر ، أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم ، هذا مما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات .
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن ، أو يكون عنده ما يسخن به الماء ، ويقول : لا ، أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر ، فهذا غير مشروع ؛ لأن الله تعالى يقول : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا واقفا في الشمس ، قال : ما هذا ؟ قالوا : نذر أن يقف في الشمس ، فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل ، فالإنسان ليس مأمورا ولا مندوبا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره ، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل ، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره ، فإنه يؤجر على ذلك ؛ لأنه بغير اختياره ...
وكثرة الخطا معناه أن يأتي الإنسان للمسجد ولو من بعد ، وليس المعنى أن يتقصد الطريق البعيد ، أو أن يقارب الخطا ، هذا غير مشروع ، بل يمشي على عادته ، ولا يتقصد البعد ، يعني مثلا : لو كان بينه وبين المسجد طريق قريب ، وآخر بعيد : لا يترك القريب ، لكن إذا كان بعيدا ، ولا بد أن يمشي إلى المسجد ، فإن كثرة الخطا إلى المساجد مما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات " انتهى .
"شرح رياض الصالحين" (كتاب الفضائل/باب فضل الوضوء) (3/137) طبعة مكتبة الصفا المصرية .
ثانيا :
سبق في الموقع أنه لا يشرع قصد المشقة في العبادة طلباً للثواب ، وذلك كما في جواب السؤال رقم : (113385) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قول بعض الناس : " الثواب على قدر المشقة " ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات ، والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها اللّه ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل اللّه من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم ) ، مثل الجوع أو العطش المفرط ، الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس ، وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه ) رواه البخاري ، وهذا باب واسع .
وأما " الأجر على قدر الطاعة " فقد تكون الطاعة للّه ورسوله في عمل ميسر ، كما يسر اللّه على أهل الإسلام : الكلمتين ، وهما أفضل الأعمال ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان اللّه وبحمده ، سبحان اللّه العظيم ) . أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل : " الأجر على قدر منفعة العمل ، وفائدته " لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر ، والثاني باعتبار صفته في نفسه .
والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط ، وتارة من جهة صفته في نفسه ، وتارة من كلا الأمرين ، فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية ، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة ...
فأما كونه مشقًا : فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا ، ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة ، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة : ( أجرك على قدر نصبك ) ؛ لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة ، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر ، وكذلك الجهاد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق له أجران ) .
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، لكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .
وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى اللّه ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم .
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات ، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .
ونظير هذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح ، وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون ، وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد ، وهو مذموم ، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم " انتهى .
" مجموع الفتاوى " ( 10 /620 - 623 ) .
والله أعلم .