زنت وستر عليها زوجها ، فهل الأفضل أن يقام عليها الحد أم تتوب ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو منكم إعطائي الجواب الوافي الذي يبرِّد نار قلبي مما جنيتُ في حق ربي ، ونفسي ، وزوجي ، لن أطيل بسرد القصة ، علماً بأني تائبة ، والله ، أتفكر كل يوم بما جنتْ يدي ، أو كيف انسقتُ لتلك المعصية ، لأني تربيتُ مع عائلة محافظة ، متمسكة بالكتاب والسنة ، أسألكم بالله أفيدوني .
كنت قد ارتكبتُ معصية يقام فيها حدٌّ ، وزوجي علِم ، وطلقني بدون فضح أمري ، ثم أرجعني ، وستر عليَّ وقد اتفقنا على أن يقيم عليَّ الحد ! فذهب لأحد الشيوخ ، فقال له : استر عليها ، ولتتب لربها ، أَصلَح لها ، وأنا من معرفتي بالدِّين علمتُ بأن الله يعذب الزاني في القبر ، فهل إن تبت ، وصلح أمري : فإني سأنال من عذاب ربي بعد موتي ؟ .
أرجوكم ، أفيدوني بجواب وافٍ ، فقد قرأتُ جميع الآراء والأحكام ، ولم أعرف ما الصح والخطأ ، أرجوكم ، أفيدوني ، فهل يجب أن أقيم الحدَّ ، أم أن توبتي كافية وأعيش ذليلة طيلة حياتي ؟
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
إنْ كان منْ شيءٍ نبدأ به جوابنا : فهو أن نذكر المسلمين والمسلمات بتقوى الله
وطاعته ، وأن يأخذوا العبرة والعظة من أحوال الناس ، وأن لا يعتقدوا في أنفسهم
البُعد عن الوقوع في الفواحش والمنكرات ، وأن يبتعدوا عن الصحبة السيئة والمهيجات ،
وأن لا يجني الواحد منهم على نفسه بلذة تزول وتبقى حسرتها وألمها حتى يلقى ربه ،
وليس كل واحد ممن عصى ربَّه يوفَّق لتوبة صادقة ، ويأتي بحسنات ماحية .
ثانياً :
نثني على ربنا التواب الرحيم بما هو أهله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، ونحمده
تعالى وشكره أن وفقكِ للتوبة ، وأن يسَّر لك أن ترجعي لصوابك ، فليس كل من فعل
معصية وُفق للتخلص منها ، والتوبة بعد فعلها ، وها قد وفقك ربك لتلك التوبة فاحمديه
، واشكريه ، وأكثري من الثناء عليه عز وجل ، فلولا أن وفقك لها لما كنت تنعمين بها
، وما بقى في نفسك من حسرة وألم جراء تلك المعصية ، فلعلَّ الله يجعل منها جداراً
مانعاً من إعادة الوقوع فيها ، ولعلَّ ذلك الألم أن ينزل دمعة تطهر ما أصاب النفس
من خبث المعصية ، ولعلَّ ألمك بعدها أن يُحدث طاعة تدومين عليها ، إلى أن تلقي ربك
، قال الله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ) هود/114
ثالثاً :
ونثلِّث بالثناء على ذلك الزوج الشهم الأصيل ، والذي لم يفضح أمر زوجته النادمة
التائبة ، وهذا إن دلَّ على شيء فيدل على عقل راجح ، وشهامة وطيب معدن ، ودين متين
، ونبشره بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ
مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا : نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ
عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ
فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) رواه مسلم (2699)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله
عنهما .
رابعاً :
نقول للزوج الشهم الموفق : إن ما قاله ذلك الشيخ من الستر على زوجتك ، وإصلاح حالها
: هو المتعين ، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقيم الحدَّ على من فعل ما يستوجبه به ، بل
الحدود لا يقيمها إلا الولاة الشرعيون ، ومن يقوم مقامهم ، وأنتم تعيشون في بلاد لا
يقام فيها حد ، ولا يحكم فيها بشرع الله تعالى .
قال النووي – رحمه الله - : " قال العلماء : لا يستوفي الحدَّ إلا الإمام ، أو من
فوَّض ذلك إليه " انتهى .
" شرح مسلم " (11 / 193 ) .
وليعلم الزوج والزوجة : أنه لو كان عيشهما في بلاد المسلمين ، وعندهم الحاكم الذي
يقيم الحدود الشرعية على من يستحقها ، ما كنا سننصحه بالذهاب للقاضي أو الحاكم
ليقيم على زوجته الحد ؛ وذلك لأن ستر العاصي على نفسه خير له من فضح نفسه ، ولو كان
بعد ذلك يقام عليه الحد المطهِّر ، وإننا لننصح بما نصح به النبي صلى الله عليه
وسلم ، ونصح به الخليفة الراشد أبو بكر الصدِّيق ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
ففي صحيح مسلم ( 1695 ) جاء " ماعز " يقول للنبي صلى الله عليه وسلم " طهِّرني " ،
قال له : ( ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " ويؤخذ من قضيته – أي : ماعز عندما أقرَّ
بالزنى - أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا
يذكر ذلك لأحدٍ ، كما أشار به أبو بكر وعمر على " ماعز " ، وأن مَن اطَّلع على ذلك
يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في
هذه القصة " لو سترتَه بثوبك لكان خيراً لك " ، وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه
فقال : أُحبُّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب ، واحتج
بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر " انتهى .
" فتح الباري " ( 12 / 124 ، 125 ) .
خامساً :
نقول للأخت السائلة : إن باب التوبة مفتوح ، وإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب
مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، واعلمي أن الله تعالى يقبل
التوبة من عباده ، ويبدلها لهم حسنات إن هم صدقوا فيها .
قال الله تعالى : ( وإني لغفار لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ
اهْتَدَى ) طـه/ 82
، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الفرقان/ 68 –
70 ، وقال تعالى : ( وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
) الشورى/25-26 .
وحتى تكون التوبة صحيحة : فلا بد من تحقيق شروطها ، وهذه الشروط هي :
1. الإقلاع عن الذنب .
2. الندم على فعله .
3. العزم على عدم العود إليه .
واعلمي ـ يا أمة الله ـ أن الله تعالى قد تفضَّل على عباده التائبين ، ووعدهم
بتبديل سيئاتهم حسنات ، فاحذري أن يتسلط الشيطان على قلبك ليحول بينك وبين التوبة ،
أو يوقعك في اليأس من رحمة الله تعالى ؛ واعلمي أن الخبيث لم يكتف بإيقاع العباد في
المعصية ، حتى بدأ معهم جولة أخرى ليصدهم عن التوبة منها ، فاحذري أشد الحذر .
واعلمي أن فضل الله واسع ، فليس عليك إلا أن تصلحي بينك وبين ربك ، وهو تعالى
يتولاك ، ويسددك ، ويوفقك ، واعلمي أن التوبة ليس فيها ذل ، إنما الذل في معصية
الله ، بل ستعيشين مع التوبة سعيدة ، هنية ، بذكر الله تعالى ، وطاعته ، بتوفيق منه
وإعانة .
وانظري – للأهمية - : جوابي السؤالين : (
47834 ) و (
27113 ) .
والله أعلم