ما صحة النشيد المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم " طلع البدر علينا " ، وهل يجوز ترديده ؟
الحمد لله.
أولا:
ورد إنشاد هذه الأبيات - ذات المعاني الصادقة – في كتب السيرة ، وفي بعض كتب الأثر .
أما المأثور من ذلك فهو ما يرويه عبيد الله بن محمد بن عائشة رحمه الله (228هـ) قال :
"لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع "
رواه أبو الحسن الخلعي في "الفوائد" (2/59) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (رقم/752 ، 2019) ، وعزاه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/261) لأبي سعيد في "شرف المصطفى" : جميعهم من طريق العلامة الأخباري الثقة أبو خليفة الفضل بن الحباب (ت 305هـ) ، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (14/7) ، عن ابن عائشة به .
وهذا إسناد ضعيف ، فيه انقطاع كبير ؛ فإن ابن عائشة متأخر الوفاة ، وهو من شيوخ الإمام أحمد وأبي داود ، فكيف يروي حدثا من أحداث السيرة النبوية من غير إسناد .
ولهذا قال الحافظ العراقي رحمه الله : " معضل " انتهى .
"تخريج الإحياء" (1/571) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وهو سند معضل " انتهى .
"فتح الباري" (7/262) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله : " وهذا إسناد ضعيف ، رجاله ثقات ، لكنه معضل ، سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر ، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله... فالقصة برمتها غير ثابتة " انتهى باختصار .
"السلسلة الضعيفة" (2/63) .
وقد أعل العلامة ابنُ القيم أصل القصة التي تروي أن ذلك كان عند مقدمه من مكة إلى المدينة ، فقال : " هو وهم ظاهر ؛ لأن " ثنيات الوادع " إنما هي من ناحية الشام ، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام " انتهى .
"زاد المعاد" (3/551) .
ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك " انتهى .
"فتح الباري" (7/262) .
غير أن هذه العلة غير مسلمة ، فقد اشتهر عند رواة هذه القصة أنها حصلت حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، كما قال الإمام البيهقي رحمه الله : " هذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة ، لا أنه لما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك " انتهى .
"دلائل النبوة" .
وقد ذكر كثير من المؤرخين أن ثنية الوداع من جهة مكة ، وأنها قد تكون هناك ثنية أخرى من جهة الشام بالاسم نفسه .
كما ذكر آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة مر بدور الانصار ، حتى مر ببني ساعدة ، ودارهم شامي المدينة قرب ثنية الوداع ، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها .
انظر: "معجم البلدان" ياقوت الحموي (2/86) ، "طرح التثريب" للعراقي (7/239-240) ، "سبل الهدى والرشاد" للصالحي الشامي (3/277) ، و"الأثر المقتفى لقصة هجرة المصطفى" أبو تراب الظاهري (ص/155-162) .
ثانيا :
ضعف سند هذه الأبيات لا يعني عدم جواز ذكرها أو حكايتها أو إنشادها ، فمعانيها صحيحة حسنة ، وشهرتها بين المسلمين شهرة ذائعة واسعة ، وليس فيها شيء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُتشدد في إسنادها ، إنما هي من كلام الصحابة رضوان الله عليهم .
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى التساهل والتخفيف في مرويات السيرة ، والقصص ، وأقوال الصحابة والتابعين التي لا ينبني عليها عقيدة أو شريعة ، جاء في "شرح علل الترمذي" (1/372) للحافظ ابن رجب رحمه الله : " يقول سفيان الثوري رحمه الله :
لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ .
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي نا عبدة قال :
قيل لابن المبارك - وروى عن رجل حديثاً - فقيل : هذا رجل ضعيف ! فقال : يحتمل أن يروي عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء .
قلت لعبدة : مثل أي شئ كان ؟ قال : في أدب في موعظة في زهد .
وقال ابن معين في موسى بن عيينة : يُكتب من حديثه الرقاق .
وقال ابن عيينة : لا تسمعوا من بقية – اسم واحد من الرواة - ما كان في سُنَّة ، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره .
وقال أحمد في ابن إسحاق : يكتب عنه المغازي وشبهها .
وقال ابن معين في زيادٍ البكائي : لا بأس في المغازي ، وأما في غيرها فلا " انتهى .
ولا شك أن هذه الأبيات مِن أَوْلى ما يستحق التسمح في حكايته وروايته .
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري :
" أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير ، والخطر الناجم عنه كبير ؛ لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث ، بل تم التساهل فيها ، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع .. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية ، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا ، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة ، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية ، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة " انتهى .
"دراسات تاريخية" (ص/27) .
فالخلاصة أنه لا حرج في إنشاد هذه الأبيات ، والاستئناس بها ، وحفظها ، وتعليمها الأولاد الصغار ، وإن لم تثبت بالأسانيد الصحيحة ، فإن مثل هذه الأحداث تكفي روايتها وشهرتها بين أهل العلم ، ثم إن القصة لم تتضمن نسبة هذه الأبيات إلى معين من الصحابة ، وإنما تنسبها للنساء والصبيان والولائد [ يعني : الجواري الصغار ] ؛ فهذا أسهل لشأنها .
والله أعلم .