الموقف من الفتاوى الشاذة ، من مفتيها ، والآخذ بها
ما موقف عامة الناس من الفتاوى الشاذة التي كثرت مؤخراً ، مثل من أفتى بفك السحر بالسحر وغيرها من الفتاوى ؟ وهل ننكر على من عمل بهذه الفتاوى ؟ .
الجواب
الحمد لله.
أولاً:
الواجب قبل الكلام عن المستفتي أن نبدأ بالمفتي نفسه ، فنقول : يجب على كل مسلم أن
يحفظ عليه لسانه في الكلام على شرع الله تعالى بما لا يعلم ، وليعلم كل مسلم أن
القول على الله تعالى بغير علم من كبائر الذنوب ، بل قد قرنه الله تعالى بالشرك ،
فقال : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ
) الأعراف/33 .
قال ابن القيم رحمه الله :
"فرتَّب المحرمات أربع مراتب ، وبدأ بأسهلها ، وهو الفواحش ، ثم ثنَّى بما هو أشدُّ
تحريماً منه ، وهو الإثم والظلم ، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منهما ، وهو الشرك
به سبحانه ، ثم ربَّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك كله ، وهو : القول عليه بلا علم
، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وفي دينه ،
وشرعه" انتهى .
" إعلام الموقعين " ( 1 / 38 ) .
وقد رأينا في زماننا هذا عجباً ، رأينا السياسي يفتي ، والممثل يفتي ، والإعلامي
يفتي ، بل حتى الراقصة تفتي! وأصبحت الفتوى حقاً لكل من هبَّ ودبَّ ، وصار أهل
الباطل من أصحاب القنوات الفضائية ، والصحف اليومية والأسبوعية يلمعون هؤلاء ،
ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم ، وأهل هدى ، وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي
عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه الله ، ففي " إعلام الموقعين " لابن القيم ( 4 /
207 ، 208 ) قال : رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟
فقال : استُفتي مَن لا علم له ، وظهر في الإسلام أمر عظيم ، قال : ولَبعضُ مَن يفتي
ههنا أحق بالسجن من السرَّاق .
ثم قال ابن القيم :
"قال بعض العلماء : فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا
، وتوثبه عليها ، ومد باع التكلف إليها ، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها ، مع قلة
الخبرة ، وسوء السيرة ، وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر ، أو غريب فليس
له في معرفة الكتاب والسنَّة ، وآثار السلف ، نصيب"
انتهى
.
وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن ربه تعالى بما ينسبه للشرع من أحكام ، وقد كان السلف
الصالح يتدافعون الفتيا ، وكلٌّ يحول السائل إلى غيره ، حتى تعود للأول منهم ،
والجرأة والعجلة في الفتوى ليستا محمودتين من صاحبهما ، بل الواجب التأني ، والتمهل
، قبل إصدار الفتوى .
قال أبو شهاب الحناط : سمعت أبا حصين – وهو عثمان بن عاصم – يقول : إن أحدهم ليفتي
في المسألة ، ولو وردت على عمر : لجَمَع لها أهل بدر .
" سير أعلام النبلاء " ( 5 / 416 ) .
وليكن قول " لا أدري " شعاراً له في حياته فيما لا يعرفه من أحكام الشرع ، وهذه
ملائكة الرحمن تقول ذلك فيما لا تدريه ، قال تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ
لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )
البقرة/31،32 . وليتجنب الغرائب من
الأقوال ، والشذوذات من الفتوى ، وليتجنب ما لا يحسن الناس فهمه ، أو ما يسبب رقة
دين ، أو فحش سلوك ، كما يفعله من يوزع الفتاوى في طول الأرض وعرضها بإباحة المعازف
، والتمثيل للنساء والرجال ، وغير ذلك ، وكما فعله من نشر فتوى جواز فك السحر بسحر
مثله ؛ فإن هذا يعني جواز فتح مكاتب للسحرة ! وإيقاف الإنكار عليهم واستتابتهم ،
ويعني التواصي بين الناس على أفضل ساحر ! وأوثق ساحر ! وأرخص ساحر ! ، ولذا لا
يتصور صدور مثل تلك الفتاوى المفسدة لدين الناس وخلقهم من مفتٍ يعلم ما وصلت إليه
أحوال الناس من البُعد عن الشرع .
ثانياً:
يجب الإنكار على كل من اتبع هواه في الأخذ بفتاوى المتساهلين من المفتين ، أو بمن
عرف بتبني الفتاوى الشاذة ، القائمة على حب المخالفة .
ونحن نعلم أن من واجب الجاهل أن يسأل في دينه ، وأن يقلد من يستفتيه ، ولكن هذا
الأمر ليس على إطلاقه ، وبخاصة إذا علمنا أن ذاك العامي الجاهل يتقصد الأخذ بمن عرف
عنه قلة العلم ، أو قلة الدين ، وإذا كنا ننكر على ذلك المفتي نفسه ، فإننا ننكر
أيضاً على العامي الذي يعلم أنه متساهل في الفتوى ثم يذهب يستفتيه ويأخذ بفتواه .
وقد كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم ما تُحدثه الفتاوى
المختلفة بين الناس ، وكان موقفه منها صارماً ، وأصرم منه موقفه فيمن يأتي بالشاذ
من الأقوال .
روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 1 / 313 ) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي
الله عنه قَالَ : اخْتَلَفَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي
الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، فَقَالَ أُبَيٌّ : ثَوْبٌ ، وَقَالَ : ابْنُ
مَسْعُودٍ : ثَوْبَانِ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا عُمَرُ فَلاَمَهُمَا ، وَقَالَ :
إِنَّهُ لَيَسُوؤُنِي أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله
عليه وسلم فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمَا يَصْدُر النَّاسُ
؟ أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَأْلُ ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ .
وروى مالك في " الموطأ " ( 3 / 512 ) عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ
قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا
نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ ، قَالَ : ثُمَّ
قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ،
فَقَالَ : بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ ،
قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ .
فكم يا تُرى من يستحق أن يوجع بسبب فتوى شاذة نسبها لشرع الله تعالى المطهَّر ، كمن
أفتى الموظفة أن تُرضع زميلها في العمل لترتفع الخلوة ! وكمن أفتى بإباحة تقبيل
الرجل للمرأة الأجنبية لقتل الشهوة ! وكمَن أفتى بجواز تزوج المشرك من مسلمة ! وكمن
أفتى بجواز الفوائد الربوية ! وهكذا في سلسلة ليس لها آخر ، ينفخ الشيطان في نفس
مصدرها وقائلها أنه أهلٌ للفتوى ، وأنه ليس عليه أن يبالي بمن يخالفه .
ونحن لا ننكر وجود خلاف بين العلماء في مسائل الفقه ، لكنا ننكر على المفتي تتبع
الأقوال الشاذة والمهجورة منها ، وننكر جعل ذلك الخلاف سبيلاً لاختراع أقوال باطلة
ينسبها لدين الله تعالى ، وهي ليست منه ؛ ليرضي بها قاعدته ! أو ساسته .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله :
"ولم يفلح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب ، ونادر الخلاف ،
وندرة المخالف ، والتقاط الشواذ ، وتبني الآراء المهجورة ، والغلط على الأئمة ،
ونصبها للناس دينًا وشرعاً ... .
ومنها : إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة ، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية ،
وشهادات الاستثمار ، وسندات الخزينة ، وفتوى إباحة التأمين ، وفتوى إباحة السفور ،
وفتوى إباحة الاختلاط ، وكلها فتاوى شاذة فاسدة ، تمالئ الرغبات ، وبعض التوجهات"
انتهى .
" المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل " ( 1 / 107 ، 108 ) .
والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم ، أما من عرف
بالتساهل وتتبع الرخص ، وعدم الحرص على اتباع السنة ، فلا يجوز لأحد أن يستفتيه ،
ولا أن يعمل بما يفتيه به . وينظر جواب السؤال رقم (112123)
.
والله المستعان