الحمد لله.
أولا :
باب الرخصة والعزيمة من الأبواب التي تدرس في علم أصول الفقه ، وقد عرف الأصوليون الرخصة بأنها الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار العباد ، رعاية لحاجاتهم ، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي .
قال الزركشي :
" هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر " انتهى.
" البحر المحيط " (1/262) .
وعرفها الشاطبي بقوله :
" هي ما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع ، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه " انتهى.
" الموافقات " (1/466)
وأمثلتها : التلفظ بالكفر عند الإكراه ، والأكل من الميتة عند الضرورة ، وغير ذلك .
ثانيا :
بين العلماء أن الرخص ليست على حكم شرعي واحد ، وإنما تعتريها الأحكام الشرعية المختلفة :
1- الوجوب : كالأكل من الميتة عند الضرورة ، فهذه رخصة واجبة : مَن تَرَكَها أَثِم ، لقوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة/195.
2- الاستحباب والندب : مثاله قصر الصلاة في السفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ) رواه مسلم (رقم/686)
3- الإباحة : مثاله عقد السلم ، والعرايا ، وهي : بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصا بالتمر كيلا ، وشبه ذلك من العقود . عن سهل بن أبي حثمة قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر ، ورخص في العرايا ، أن يشتري بخرصها ، يأكلها أهلها رطبا ) رواه أبو داود (رقم/3363) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
4- خلاف الأولى : كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم ، قالوا : وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى : ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/184 ، فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم ، وهو يتضمن النهي عن تركه ، وما نهي عنه نهيا غير صريح فهو خلاف الأولى ، وقد سبق بيان هذا الحكم في جواب السؤال رقم : (20165)
ثالثا :
بناء على ما سبق يتبين أن الرخصة الشرعية تعتريها عدة أحكام ، وليس حكم الندب فقط كما هو المشهور . وعلى ذلك ، فقوله عليه الصلاة والسلام ، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ ) رواه ابن حبان في " صحيحه " (رقم/354)، قال المنذري في " الترغيب والترهيب " (1/!47): إسناده حسن. وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (3/10).
لا يعني استحباب كل رخصة على كل عزيمة مطلقا ، بل وجهه العلماء بتوجيهات عدة منها :
1- أنه خاص في الرخص التي طلبتها الشريعة وحثت عليها ورغبت فيها ، أو في حال ما إذا كانت العزيمة تسبب مشقة فادحة لا تأتي بمثلها الشريعة ، وليس في كل رخصة يثبت الاستحباب :
يقول العلامة الشاطبي رحمه الله :
" قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ) ؛ فالرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها ، فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله, صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر ) ، كان موافقا لقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) البقرة/185، وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) النساء/28، بعدما قال في الأولى : ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/184، وفي الثانية : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) النساء/25. فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق ليكون على بينة في المجاري الشرعيات " انتهى.
" الموافقات " (1/517)
ويقول الشيخ أبو القاسم الأنصاري المعروف بابن الشاط :
" يمكن أن يحمل – يعني حديث ابن عباس السابق - على أن الرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيه ، أو ما أدى تركه إلى المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر )، فيوافق قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )، وقوله تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم )، بعد ما قال في الأولى : (وأن تصوموا خير لكم )، وفي الثانية : ( وأن تصبروا خير ) " انتهى.
حاشية " الفروق " للقرافي (2/139)
2- وقال بعض أهل العلم : المقصود من الحديث دفع التكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة ، فهذا هو المذموم ، أن يترفع المسلم عن الترخص بالرخص تنطعا ، ففي هذه الحالة يحب الله من العبد أن يأتي بالرخص ، كسرا لهذا الكبر ، واعترافا بنعمة الله تعالى علينا بالتخفيف ، وليس المقصود استحباب الترخص بكل رخصة .
يقول المناوي رحمه الله :
" لما فيه من دفع التكبر والترفع من استباحة ما أباحته الشريعة ، ومَن أَنِفَ ما أباحه الشرع ، وترفَّعَ عنه : فَسَدَ دينه ؛ فأمر بفعل الرخصة ليدفع عن نفسه تكبرها ، ويقتل بذلك كبرها ، ويقهر النفس الأمارة بالسوء على قبول ما جاء به الشرع " انتهى.
" فيض القدير " (2/376)
3- وذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود من الحديث تطييب قلوب الضعفاء الذين لا يقدرون على العزائم ، فواساهم بأنهم يترخصون في الجملة بما يحب الله ، وليس المقصود بيان أن كل رخصة حكمها الاستحباب .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله :
" – جاء الحديث - تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات ، فما أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا رحمة للعالمين كلهم عليه اختلاف أصنافهم ودرجاتهم " انتهى.
" إحياء علوم الدين " (4/278)
فالحاصل أنه لا تعارض بين الآية والحديث ، لأن كلا منهما يتنزل على حال مختلفة عن الأخرى .
والله أعلم.