الحمد لله.
أولاً :
الواجب على المؤمن أن يكون معظماً للرسول صلى الله عليه وسلم متأدباً معه ، ولا يجوز له أن يجترئ على مقام النبوة فيزعم أن الأفضل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول كذا ولا يقول كذا ، فمقام النبوة أعظم من هذا ، فما قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل وهو الأحكم والأحسن .
ولا مانع من أن يسأل المؤمن عن حكمة قول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا ، ولكن يختار لذلك من الألفاظ ما لا يخدش جناب النبوة ومقامها العظيم .
ثانياً :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم في العرب وكانوا أمة أمية (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) الجمعة/2 ، وكانت أشهر مقاييسهم في تحديد المسافات هي تحديد ذلك بالمسافة التي تقطع في الوقت معين .
فذلك الضبط بالنسبة لهم كان أظهر وأوضح في بيان المقصود من أي تقدير آخر ، لأنهم كانوا يكثرون السفر والتنقل ، ويعرفون كم تقطع الإبل بهم في مسيرة اليوم والليلة الواحدة ، فكثر ذلك في خطابهم .
فكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمل المقاييس المشهورة المعروفة عندهم ، حتى يحصل المقصود من الكلام ، ويفهم معناه ، ولو تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمقاييس غير المشهورة عندهم لكان هذا خلاف البيان والبلاغة ، حيث يخاطب الناس بما لا يعرفون ، أو بما لا يعرفه أكثرهم ، من غير فائدة لذلك .
وليس في تحديد المسافة بذلك أي غضاضة ، بل هو أمر اصطلاحي يختلف باختلاف الزمان والمكان ، ولا يزال هذا التقدير مستعملاً إلى اليوم .
فنحن نسمع اليوم في المقاييس الحديثة ما يسمى بـ "السنة الضوئية" : وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة ، يعني مسيرة سنة بالنسبة للضوء . فهذا يوافق التقدير المنقول في بعض الأحاديث ، والتقدير المشهور عند العرب في الجاهلية قبل الإسلام ، وفي صدر الإسلام .
قال الدكتور جواد علي :
"استخدم الجاهليون مصطلحات خاصة في تقدير المسافات والأبعاد ، ولا سيما في الأسفار . فاستعملوا مصطلح : مسيرة ساعة ، ومسيرة ليلة ، ومسيرة نهار ، ومسيرة قافلة ، وأمثال ذلك ، وقصدوا بذلك معدَّل ما يقطعه الإنسان والقافلة في المدد المذكورة" انتهى .
"المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (14/313) .
وقد جاء في السنة النبوية استعمال مصطلح "الميل" :
فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ) رواه مسلم (2864) .
كما استعمل العرب وحدة : " الإصبع "، و " الشبر "، و" الباع "، و " البريد "، و " الفرسخ "، وغير ذلك من الوحدات المشتهرة في كتب الفقهاء ، ويمكن الرجوع إلى بعض الدراسات المعاصرة التي تبين مقادير هذه الوحدات بالمقاييس المعاصرة . منها بحث الشيخ عبد الله بن منيع المقدم للندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة .
والله أعلم .