الحمد لله.
أولا :
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يخير عند موته بين الدنيا والآخرة ، جاء ذلك في روايات عدة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَحِيحٌ يَقُولُ : إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ يُحَيَّا أَوْ يُخَيَّرَ . فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِي عَلَيْهِ ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى . فَقُلْتُ : إِذًا لاَ يُجَاوِرُنَا . فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ )
رواه البخاري (4437) ومسلم (2444)
وعنها رضى الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :
( مَا مِنْ نَبيٍّ يَمْرَضُ إِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ ) رواه البخاري (4586)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قوله : ( كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يُخَيَّر ) ولم تصرح عائشة بذكر من سمعت ذلك منه في هذه الرواية ، وصرحت بذلك في الرواية التي تليها من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول : ( إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير ) وهو شك من الراوي ، هل قال يُحَيَّى ، أو يُخَيَّر .
وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخير )
ولأحمد أيضا من حديث أبي مويهبة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة )
وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه : ( خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ) " انتهى من " فتح الباري " (8/137)
وقال أيضا :
" هذه الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت " انتهى من " فتح الباري " (10/131)
ومن ذلك قصة استئذان ملك الموت على نبي الله موسى عليه السلام فلطمه موسى ففقأ عينه وهي مروية في الصحيحين أيضا .
يقول الدكتور عمر الأشقر حفظه الله :
" مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة " انتهى من " الرسل والرسالات " (ص/63)
ثانيا :
لما كان تخيير الرسل والأنبياء قبل الموت من عالم الغيب الذي لم نطلع عليه إلا بواسطة الوحي الصحيح ، لم يجز لنا أن نتكلم في تفاصيله بغير علم ولا هدى ، بل يجب الوقوف عند حدود النصوص الواردة في هذا الموضوع ، وهي نصوص عامة لم تستثن أحدا من الأنبياء ، بل جاءت بصيغة تؤكد العموم ، ففي الرواية الأولى بلفظ : ( لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ )، وفي الرواية الثانية بلفظ : ( مَا مِنْ نَبيٍّ يَمْرَضُ )، فيظهر أنها تعم كل نبي ، سواء مات ميتة طبيعية على فراشه ، أو قتل شهيدا باعتداء المعتدين .
هذا ما يمكننا قوله ، ولا نستطيع تجاوز ذلك .
ثالثا :
لا يفوتنا التنبيه هنا على كثرة الكذب في هذا الموضوع ، فقد رويت أحاديث كثيرة ضعيفة تذكر قصة استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه ، وما دار من حوار طويل بينهما ، سبق التنبيه عليه في جواب السؤال رقم : (71400)
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :
" وأما الجواب عن - استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم - فهو أنّ الحديث في ذلك لا يَصِحُّ ، ولا عبرة بسكوت بعض أهل السِّيَرِ عليه , ولا بذكره في بعض الخُطَب التي قَلَّمَا تحرى أصحابها الصحاح من السنن والآثار , بل أولع أكثرهم بالواهيات والموضوعات " انتهى من " مجلة المنار " (11/352)
والله أعلم .