الحمد لله.
أولا :
وردت هذه الآية في شأن اليتيمة تكون في حجر وليها ، ثم يرغب في نكاحها ، من غير أن يعطيها مهر مثلها . قال الله تعالى :
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) النساء /3 .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية :
" إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة ، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه .
وقوله : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي : فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن كما قال تعالى : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) النساء/129، فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة ، أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم بينهن ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (2/208-212) .
ثانيا :
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى : ( ذلك أدنى ألا تعولوا )، على قولين :
القول الأول : ذلك أدنى ألا تظلموا وتجوروا ، وهذا قول جماهير المفسرين من الصحابة والتابعين والعلماء المحققين . روي ذلك عن وروى عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي، والشَّعْبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حَيَّان وغيرهم .
انظر : تفسير ابن أبي حاتم (4/13) ، تفسير ابن كثير (2/213) .
وهذا التفسير المروي عن جمهور السلف والعلماء ، قد اختاره أيضا غير واحد من المحققين .
ينظر : " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (32/70-71) ، " تفسير القرآن العظيم " (2/212) .
قال الطحاوي رحمه الله :
" ولا نعلمه روي عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويلها غير هذا القول ، وقد روي عن غير واحد من التابعين في تأويلها مثل ذلك أيضا " .
انتهى . " شرح مشكل الآثار" (14/429) .
القول الثاني : ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم . قال الإمام الشافعي رحمه الله :
" أَنْ لَا يَكْثُرَ من تَعُولُونَ إذَا اقْتَصَرَ الْمَرْءُ على وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ أَبَاحَ له أَكْثَرَ منها " انتهى .
الأم ، للشافعي (6/275) ط دار الوفاء ، وانظر : أحكام القرآن للشافعي ، جمع البيهقي (1/274) .
وروي هذا القول أيضا عن سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم . انظر : تفسير ابن كثير (2/212) .
وهذا القول الثاني ، وإن كان خلاف المشهور في تفسيرها ، وخلاف المعنى المتبادر منها ، حتى صرح بعض أهل العلم بتغليطه ، وأنه لا أصل له في اللغة ؛ فقد انتصر لصحته في اللغة غير واحد من أهل العلم ، وصرح بعضهم بأنه لا تنافي بينه وبين القول الأول .
قال الإمام أبو منصور الأزهري رحمه الله :
" قال أكثر أهل التفسير: معناه: ذلك أقرب ألا تجوروا وتميلوا . وروى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) : أي أدنى ألا يكثر عيالكم .
قلت : وإلى هذا القول ذهب الشافعي ، فيما أخبرني عبد الملك عن الربيع عنه .
قلت : والمعروف في كلام العرب : عال الرجل يعول ، إذا جار، وأعال يُعيل إذا كثر عياله . " وقد روى أبو عمر عن أحمد بن يحيى عن سَلَمة عن الفراء ، أن الكسائي قال: عال الرجل يَعيل : إذا افتقر، وأعال الرجل : إذا كثر عياله . قال الكسائي: ومن العرب الفصحاء من يقول: عال يعول : إذا كثر عياله .
قلت : وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي في تفسير الآية ، لأن الكسائي لا يحكى عن العرب إلاّ ما حفظه وضبطه . وقول الشافعي نفسه حجَّة ؛ لأنه عربيّ اللسان فصيح اللهجة ، وقد اعترض عليه بعض المتحذلقين فخطَّأه ؛ وقد عجل ولم يتثبت فيما قال . ولا يجوز للحضريّ أن يعجل إلى إنكار مالا يعرفه من لغات العرب " انتهى . "تهذيب اللغة" (3/194-195) .
وقال الزمخشري في تفسيره :
" والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله .. ، فوجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل عياله يعولهم ، كقولهم : مانهم يمونهم ، إذا أنفق عليهم ، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب .
وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين ، حقيق بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا .. ، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب شافي العيِّ ، من كلام الشافعي شاهداً بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب ، من أن يخفى عليه مثل هذا ، ولكن للعلماء طرقاً وأساليب . فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات .
فإن قلت : كيف يَقِل عيال من تَسَرِّى ، وفي السرائر نحو ما في المهائر[ أي: الحرائر] ؟
قلت : ليس كذلك ، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل ، بخلاف التسرِّي ، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن ، فكان التسري مظِنَّة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع . " انتهى . "الكشاف" (1/469) .
وينظر أيضا : الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ، للأزهري (352) ، رد الانتقاد على ألفاظ الشافعي ، للبيهقي (115-119) وحواشي محققه ، أضواء البيان ، للشنقيطي (1/317-318) .
ثالثا :
بناء على ما سبق فلا إشكال بين الآية السابقة ، والأحاديث الصحيحة التي تدل على استحباب تكثير النسل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ) رواه أبو داود (رقم/2050) وصححه ابن حجر في " فتح الباري " (9/13)، والشيخ الألباني في " صحيح أبي داود ". فعلى القول المشهور الذي ذهب إليه الجمهور : لا إشكال ولا تعارض ؛ وإنما المراد : الاحتياط للعدل بين الزوجات ، أو الاقتصار على واحدة إذا خاف الظلم .
وقد ذكر ابن القيم هذا الاستشكال الظاهري بعد أن استعرض مجموعة من الأحاديث التي تدل على فضل الأولاد والأبناء ، ثم أجاب عن الاستشكال المبني على تفسير الإمام الشافعي من عشرة أوجه ، أهمها :
" يتعين الأول – يعني تفسير جماهير العلماء للآية وليس تفسير الشافعي - لوجوه :
أحدها : أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يُعرف سواه ، ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي ، وسائر أهل اللغة على خلافه .
الثاني : أنه مروي عن عائشة وابن عباس ، ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين .
الثالث : أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود ، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة ترد هذا التفسير .
الرابع : أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره ، فإنه قال في أولها : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى ، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ ، وأباح لهم منه ، ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) ، ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور ، وهذا صريح في المقصود .
الخامس : أنه من الممتنع أن يقال لهم : إن خفتم ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم .
السادس : أنه سبحانه قال : ( فإن خفتم ألا تعدلوا ) ولم يقل : ( وإن خفتم ألا تفتقروا أو تحتاجوا )، ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك .
انتهى ملخصا من " تحفة المودود بأحكام المولود " (ص/17-20) .
وعلى القول الثاني في تفسير الآية : يكون الأمر في الحديث عاما : أن يسعى المسلم إلى تكثير النسل ، وتكثير سواد المسلمين بالزوجة الولود ؛ لكن إن خاف أن يغلب على حق أهله ، أو يعجز عن الوفاء بكسبهم المشروع ، ونفقتهم الواجبة : فله أن يقتصر على واحدة من الزوجات ، وما عنده من الإماء ؛ ليكون ذلك أخف لحمله ، وأيسر لمؤونته ، وأبعد له عن العجز عن مقام الرعاية والكفاية ؛ وهذا كما أن الشرع أرشد إلى النكاح إرشادا عاما ، ثم إنه أمر من عجز عن ذلك بالعفة وأسبابها ، حتى ييسر الله له أمر زواجه . قال تعالى :
( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) النور/32-33 .
ونحو ذلك ما رواه البخاري (4678) ومسلم (2485) عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) .
والله أعلم .