الحمد لله.
أولاً :
من الأحكام المتفق عليها بين علماء المسلمين أن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال ؛ لقوله تعالى : (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) النساء/15 ، وقَوْله: (لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور/13 .
قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أن الشهادة على الزنا أربعة لا يُقبل أقل منهم" انتهى .
"الإجماع " ص 42 .
فإن نقص عدد الشهود عن أربعة ، وجب عليهم السكوت ، ولم يجز لهم اتهامه بالزنا ، فإن تكلموا بذلك رُدت شهادتهم ، وأُقيم عليهم حد القذف ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) النور/4 .
ولما رواه النسائي (3469) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ بِامْرَأَتِهِ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ ، وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) . وصححه الألباني.
قال ابن قدامة : "وإذا لم تَكمل شهود الزنا ، فعليهم الحدُّ في قول أكثر أهل العلم" انتهى .
"المغني " (10 /175) .
وذلك حتى لا تُتَّخذ صورةُ الشهادة ذريعةً إلى الوقيعة في أعراض الناس .
ثانياً :
أما القصة التي أشرت إليها ، فقد ذكرها أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" (2/200) ، فقال :
"روى أن عمر رضي الله عنه كان يَعُسُّ [يطوف ليلاً] بالمدينة ذات ليلة ، فرأى رجلاً وامرأةً على فاحشة .
فلما أصبح قال للناس : أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأةً على فاحشة ، فأقام عليهما الحد ، ما كنتم فاعلين .
قالوا : إنما أنت إمام .
فقال علي رضي الله عنه : ليس ذلك لك ، إذاً يقام عليك الحد ، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود .
ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم .
ثم سألهم ، فقال القوم مقالتهم الأولى ، فقال علي رضي الله عنه مثل مقالته الأولى" انتهى .
ثم قال أبو حامد الغزالي : "وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله ، فلذلك راجعهم ... خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاً بإخباره ، ومالَ رأى علي إلى أنه ليس له ذلك" انتهى .
وهذه القصة التي ذكرها الغزالي لم نقف عليها ـ بعد البحث ـ مروية بسندها ، حتى نستطيع الحكم بصحتها ، ومن المعروف أنَّ الغزالي ممن يتساهل في إيراد الأحاديث والروايات الضعيفة والموضوعة ، خاصة في كتابه : " إحياء علوم الدين".
وقد سبق الكلام عن هذا الكتاب وما فيه من أغاليط في جواب السؤال (27328) .
وقد ورد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما يخالف هذا الأثر الذي ذكره الغزالي ، وذكره السائل بمعناه .
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ : زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ ، وَأَنْتَ أَمِيرٌ ، فَقَالَ : شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ : صَدَقْتَ .
رواه البخاري معلقاً ، ووصله عبد الرزاق في المصنف (8 / 340) ، وأشار ابن القيم إلى ثبوته في " الطرق الحكمية" صـ 168 .
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" : "وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا" انتهى .
فهذا يدل على أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يريان أن الحاكم لا يحكم بما علمه ولم يشهد عليه شهود ، وإنما يحكم بشهادة الشهود .
ولا نستبعد أن يكون أعداء الصحابة الذين يسمون بـ "الشيعة" أو "الرافضة" هم الذين يرجون لمثل هذه الروايات ، حتى يثبتوا بها أن علياً أعلم من عمر رضي الله عنهما .
وعِلْمُ عليٍّ رضي الله عنه وفضله وحسن قضائه معلوم ظاهر ، وأظهر منه : أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أفضل منه وأعلم ، وهذا لا ينكره إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي .
قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" :
"وَتَرْتِيبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي الْفَضْلِ ، كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ . وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا بالاقْتِدَاءِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَّا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِمُ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، فَحَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَوْقَ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ...
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ . وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ : أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرُ ، ثُمَّ عُثْمَانُ)" انتهى .
وعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله هنا بأن هذا الحديث الأخير رواه البخاري بلفظين آخرين ، ولم يروه مسلم . وأن هذا اللفظ الذي ذكره ابن أبي العز رحمه الله هو لفظ أبي داود في سننه.
فرضي الله عن الصحابة أجمعين ، وجعلنا ممن اتبعوهم بإحسان ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
والله أعلم