الحمد لله.
أولاً:
إننا لنأسف جداً من كَمِّ الأسئلة التي يعترض بها أصحابها على أحكام الله تعالى ، وخلقه ، وتدبيره للكون .
ومما يزيد الأسى والحزن أن تكون هذه الأسئلة موجهة من مسلمين ، المفترض فيهم أن يكونوا عبيداً لله ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني ، فيسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ، والكف عما نهاهم عنه ، ويسلمون لأحكامه ، وتنشرح بها صدورهم ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ، وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
لقد خُدع المسلمون بشعارات رفعها أعداؤهم ، كـ "المساواة" وظنوا أنها شعار صحيح ، يحقق العدل بين البشر ، والواقع بخلاف هذا .
فهذا الشعار المزيف لا يوجد من يطبقه تطبيقاً مجرداً من كل شرط أو قيد ، فلا يمكن أن يسوى بين الكبير والصغير ، والمرأة والرجل ، والعالم والجاهل ، والمجنون والعاقل ، والقائد والجندي ، والعدو والصديق ، والمؤمن وغير المؤمن . ومن ادعى بلسانه أنه يدعو للمساواة بين كل هؤلاء ، فهي مجرد دعوى ، وتطبيقه العملي يخالف ما يدعو إليه ويكذبه ولابد .
ولهذا جاء شرعنا بـ "العدل" الذي هو وضع الشيء في موضعه اللائق به ، ولم يأت بالتسوية المطلقة بين البشر في كل شيء ، وإنما هو جاء بالعدل ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) ، وقال تعالى : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) .
وميزان العدل عندنا ـ نحن المسلمون ـ هو حكم الله ، فحكم الله هو العدل ، ومن حكم به فهو العادل ، ومن حَكَمَ بغيره فهو الظالم ، حتى وإن رآه الناس عدلاً ، قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) .
وأحكام الله تعالى وتقديراته دائرة بين العدل والفضل ، ولا يمكن أن ينسب شيء من الظلم ـ مهما كان يسيراً ـ إلى الله تعالى .
قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وقال : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقال تعالى في الحديث القدسي : (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) رواه مسلم (2577) .
فالواجب على المؤمن أن ينظر إلى أحكام الله تعالى على أنها عدل أو فضل .
ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها بعض الناس : أنه يُؤصِّل أصلاً ، ويرى أن هذا الأصل حق لا ريب فيه ـ وقد يكون الأمر بخلاف هذا ـ ثم يريد أن يحكم على الله تعالى بهذا الأصل .
والله تعالى لكمال علمه وحكمته وقدرته وسلطانه لا يملك أحد أن يسأله : لم فعل؟ قال الله تعالى : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .
ثالثاً :
قول السائل : "أنا مؤمن بأن الله لا يفرق بين البشر على أساس العرق" هذا بالنسبة للثواب والعقاب : صحيح ، فالبشر كلهم سواء عند الله تعالى من حيث الثواب والعقاب ، والحسنات والسيئات ، فميزان التفضيل والإكرام هو طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله تعالى أحبه الله وأكرمه وقربه ، ومن عصى الله تعالى كان مستحقاً للعقاب والإبعاد ، قال الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) رواه أحمد (22978) وصححه الألباني في "شرح العقيدة الطحاوية" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" :
"وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ، ومدح الله عز وجل للشخص المعين ، وكرامته عند الله فهذا لا يؤثر فيه النسب ، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح ، وهو التقوى ، كما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)" انتهى .
وقال أيضاً :
"ودين الإسلام إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي ، فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه ، وإن كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا ، وقد قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب) ....
وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى ، وإن كان الأول أسود حبشياً ، والثاني عَلَويًا أو عباسيا" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (28/543) .
وقال أيضاً :
" تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذي اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل ، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يُمدح فيها أحدٌ بنسبه ، ولا يُذم أحدٌ بنسبه ، وإنما يُمدح بالإيمان والتقوى ، ويُذم بالكفر والفسوق والعصيان" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (35/231) .
غير أن الله تعالى فضَّل بعض أجناس بني آدم على بعض ، فجعل العرب أفضل من غيرهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وشرع الله تعالى أحكاماً خاصة بالعرب أو ببعضٍ منهم ، تدل على فضلهم .
منها : تخصيص الإمامة العظمى (الخلافة) بقريش .
ومنها : تحريم الصدقة على بني هاشم .
ومنها : أنه جعل لبني هاشم وبني المطلب جزءاً من الغنيمة .
وانظر لبيان ذلك : "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/148 – 163) .
ثم قول السائل : "أليس اصطفاء بشر ليكون رسولاً تفرقه بين البشر"؟
فيقال له : فماذا تريد حتى تتحقق المساواة التي تريدها؟
يلزم على كلامك أحد أمرين :
إما أن يرسل الله تعالى جميع الناس !
وإما أن لا يرسل أحداً البتة .
وكلا الأمرين باطل بلا شك .
وإذا بطل هذان الأمران ، لم يبق إلا أن يختص الله تعالى بعض الناس ويختاره للرسالة .
وهذا الاختيار تفضيل من الله تعالى لبعض البشر بلا شك ، وهو تفضيل مبني على كمال العلم والحكمة ، ولا ظلم فيه بوجه من الوجوه .
فالله تعالى يختار لحمل رسالته من هو أهل لها ، ويمنعها ممن لا يستحقها ، ولا يقوم بأعبائها، وهذا هو العدل والحكمة .
فهل ترى أيها السائل ، أنك أهل للرسالة؟ وأن الله ـ تعالى عن ذلك ـ ظلمك حيث لم يجعلك رسولا؟
أترى نفسك من صفوة البشر كأنبياء الله ورسله وأنت لم تُسَلِّم لأحكام الله وقضائه وقَدَره ، وتعترض على أفعاله ، وتقول عن نفسك : إنك تعصي الله ؟
فهل ترى نفسك بعد كل ذلك أهلاً للرسالة ؟
ولهذا قال الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) الأنعام/124 .
قال ابن كثير :
"أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه" انتهى .
"تفسير ابن كثير" (3/332) .
وقال ابن جرير :
"يقول جل ثناؤه : فأنا أعلم بمواضع رسالاتي ، ومن هو لها أهل ، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم ؛ لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه ، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته" انتهى .
"تفسير الطبري" (12/96) .
وقال السعدي :
"وفي هذا اعتراض منهم على الله ، وعجب بأنفسهم ، وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله ، وتحجر على فضل الله وإحسانه .
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير ، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين ، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين ، فقال : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فمن علمه يصلح لها ، ويقوم بأعبائها ، وهو متصف بكل خلق جميل ، ومتبرئ من كل خلق دنيء ، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا ، ومن لم يكن كذلك ، لم يضع أفضل مواهبه عند من لا يستأهله ، ولا يزكو عنده .
وفي هذه الآية دليل على كمال حكمة الله تعالى ، لأنه وإن كان تعالى رحيما واسع الجود ، كثير الإحسان ، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله" انتهى .
"تفسير السعدي" (ص 271) .
وقال الله تعالى : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف/31 ، 32 .
قال ابن كثير :
"أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد" انتهى .
"تفسير ابن كثير" (2/29) .
وبهذا يتبين أن تفضيل الله تعالى لبعض البشر بالنبوة والرسالة مبني على العلم والحكمة ، وليس من أجل الجنس أو العرق .
ثم إن الرسل أنفسهم قد فضَّل الله بعضهم على بعض ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) الإسراء/55 ، وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة/253 .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التسليم والانقياد لأحكامه .
والله أعلم