الحمد لله.
أولاً :
لا شك أن هذا مما يؤلم القلب ، بل ويدميه ، ونسأل الله تعالى أن يخلص أولئك من براثن أهل الشر ، والسوء .
ثانياً :
أول من تقع المسؤولية عليه هو الحاكم لتلك البلاد ، ثم المسؤولون عن محاربة الشر والفساد وأهله ، الذين يستطيعون القضاء على هؤلاء ، ثم أهل الحل والعقد والكبراء ، ممن يعلمون هذا الأمر ، ويسكتون عنه .
والمسؤولية تقع أيضاً على والديهم ممن رضي لأولاده بالعمل في هذا المجال ، أو فرَّط في تربية أولاده حتى وصلوا إلى هذه الحال .
ومن أعظم أسباب ضياع الأولاد : تقصير الوالدين في حق أولادهم بتضييعهم , وعدم القيام بواجب المسؤولية نحوهم .
قال ابن القيم رحمه الله :
"فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه ، وتركه سدى : فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبَل الآباء ، وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه ؛ فأضاعوهم صغاراً" انتهى .
"تحفة المودود" (ص 229) .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولية أولئك جميعاً في سياق واحد في هذا الحديث :
عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) رواه البخاري (853) ومسلم (1829) .
ثالثاً:
من قواعد الشريعة المتفق عليها بين أهل العلم : التجاوز عن المكرَه إكراهاً ملجئاً ، لا يستطيع التخلص منه ، بسبب ضعفه ، وقلة حيلته ، وبسبب جبروت المكرِه وطغيانه ، حتى لو كان الإكراه في الكفر ، فإن الله تعالى قد تجاوز عنه ، ولا يكون المكرَه آثماً بحال ، كما قال تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ 106 .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ ، وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه (2045) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .
وقد نصَّ الله تعالى على حرمة الإكراه على " البغاء " ، وتوعَّد من أكره النساء عليه ، وأخبر عن غفرانه لذنب من أكرهت على ذلك من النساء ، بل وللمكرِه أيضاً إن هو تاب ، وأناب .
قال الله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/33 .
وسبب نزول هذه الآية : هو ما كان يفعله " عبد الله بن أبيّ بن سلول " – زعيم المنافقين – من إكراه إماءٍ عنده على الزنى .
فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا " مُسَيْكَةُ " ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا " أُمَيْمَةُ " فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى ، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) رواه مسلم (3029) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
"قال تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) أي : إماءكم ، (عَلَى الْبِغَاءِ) أي : أن تكون زانية ، (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) لأنه لا يُتصور إكراهها إلا بهذه الحال ، وأما إذا لم ترد تحصناً : فإنها تكون بغيّاً ، يجب على سيدها منعها من ذلك ، وإنما هذا نهي لما كانوا يستعملونه في الجاهلية ، من كون السيد يُجبر أمَته على البغاء ؛ ليأخذ منها أجرة ذلك ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيراً منكم ، وأعفَّ عن الزنا ، وأنتم تفعلون بهن ذلك ؛ لأجل عرَض الحياة ، متاع قليل ، يعرض ، ثم يزول .
فكسبكم النزاهة ، والنظافة ، والمروءة - بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها - : أفضل من كسبكم العرَض القليل ، الذي يكسبكم الرذالة ، والخسَّة .
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة ، فقال : (وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فليتب إلى الله ، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه ، فإذا فعل ذلك : غَفر الله ذنوبه ، ورحمه" انتهى .
"تفسير السعدي" (ص 567) .
وقال الطبري رحمه الله :
"(وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ) يقول : ومن يكره فتياته على البغاء ، فإن الله من بعد إكراهه إياهنّ على ذلك ، لهنَّ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ووزر ما كان من ذلك عليهم ، دونهن" انتهى.
"تفسير الطبري" (19/174) .
والآية تشمل المعنيين ، فهو تعالى غفور رحيم للمكرَهات على الزنى ، وهو غفور رحيم لمن تاب ممن أكرههنَّ على فعل الفاحشة .
وقد فصَّل العلماء في حد الإكراه الذي يُعذر فيه الإنسان .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"وهو نوعان : أحدهما من لا اختيار له , ولا قدرة له على الامتناع ، كمن حُمل كرها , وأُدخل إلى مكان حلَف على الامتناع من دخوله ، أو حُمل كرهاً ، وضُرب به غيره حتى مات ذلك الغير , ولا قدرة له على الامتناع ، أو أضجعت ، ثم زني بها ، من غير قدرة لها على الامتناع ، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق .
والنوع الثاني : من أكره بضرب أو غيره حتى فعل هذا الفعل ... فإن أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ، ففي إباحته قولان : أحدها : يباح له ذلك ، استدلالاً بقول الله تعالى : (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ...) ... وذكر الحديث المتقدم في نزولها في عبد الله بن أبي ، ثم قال : وهذا قول الجمهور كالشافعي وأبي حنيفة وهو المشهور عن أحمد ، وعن عمر بن الخطاب ما يدل عليه" انتهى باختصار .
" جامع العلوم والحكم " ( ص 376 ) .
فإذا كان الإكراه وصل إلى حدِّ القتل – كما جاء في السؤال - : فلا إثم عليها ، ولا حد .
وكذلك لو كان الإكراه بالمنع من الطعام والشراب ، حتى يُخاف عليها من الهلاك : كان هذا عذراً أيضاً ، ولا إثم عليها .
فعَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِامْرَأَةٍ جَهَدَهَا الْعَطَشُ ، فَمَرَّتْ عَلَى رَاعٍ ، فَاسْتَسْقَتْ ، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إِلاَّ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ، فَفَعَلَتْ ، فَشَاوَرَ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ ، أَرَى أَنْ تُخَلِّىَ سَبِيلَهَا ، فَفَعَلَ . رواه البيهقي في " سننه " (8/ 236) ، وقوَّى إسنادَه الألباني في "إرواء الغليل" (7/341) .
قال ابن القيم رحمه الله :
"والعمل على هذا ، لو اضطرت المرأة إلى طعام ، أو شراب ، عند رجل ، فمنعها إلا بنفسها ، وخافت الهلاك ، فمكَّنته من نفسها : فلا حدَّ عليها .
فإن قيل : فهل يجوز لها في هذه الحال أن تمكِّن من نفسها ، أم يجب عليها أن تصبر ، ولو ماتت ؟ .
قيل : هذه حكمها حكم المكرَهة على الزنا ، التي يقال لها : إن مكنتِ من نفسك وإلا قتلتُك ، والمكرهة لا حدَّ عليها , ولها أن تفتدي من القتل بذلك , ولو صبرت : لكان أفضل لها , ولا يجب عليها أن تمكن من نفسها ، كما لا يجب على المكره على الكفر أن يتلفظ به , وإن صبر حتى قُتل : لم يكن آثما ، فالمكرهة على الفاحشة أولى" انتهى .
"الطرق الحُكمية" (ص 80) .
وينبغي أن يُعلم : أن من شروط الإكراه أن يكون عاجزاً عن دفع المكرِه عن نفسه ، أو الهرب منه ، فإن أمكنها الهرب وجب عليها ذلك ولا تكون مكرهة ، أو أمكنها أن تستعين بالشرطة أو المسؤولين ـ إن كانوا سيحمونها ـ فليست مكرهة .
وينظر تفصيل شروط الإكراه في جواب السؤال رقم : (70558)
ونسأل الله تعالى أن يحفظ أعراض المسلمين ، وأن يردهم إليه ردّاً جميلاً .
والله أعلم