الحمد لله.
تطلق هذه العبارة وما في معناها على رجل صالح أو عالم زل في مسألة ، أو وقع منه ما لم يحمد عليه ، أو كانت له هفوة حفظت عنه ، فيراد بهذه العبارة الدفاع عنه ، وعدم النيل منه للهفوة أو الزلة ؛ لأنه معروف بالستر والصلاح ، أو بالعلم ، ومحامده المحفوظة أكثر بكثير من مذامه أو أخطائه .
فإنه قد يأتي من يتتبع زلات العلماء ، ويتنقصهم بها ، فيقال له : إن سيئة هذا العالم مغمورة في بحر حسناته .
وهذا كما قال الذهبي رحمه الله في ترجمة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها ، وهي مغمورة في بحر علمه ، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه ، فما رأيت مثله ، وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا ؟ " انتهى .
"تذكرة الحفاظ" (4/192) .
كما قال عكس ذلك في ترجمة الحجاج الثقفي :
"وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه ، وأمره إلى الله" انتهى .
"سير أعلام النبلاء" (4/ 343) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"الحسنات لما غلبت السيئات ضعف تأثير المغلوب المرجوح ، وصار الحكم للغالب دونه لاستهلاكه في جنبه كما يستهلك يسير النجاسة في الماء الكثير ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث" انتهى .
"طريق الهجرتين" ( ص 563) .
وقال أيضا :
"المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب ، ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب ، فهي كالبحر لا يتغير بالجيف" انتهى .
"مدارج السالكين" (1/312) .
وقال أيضا :
"من قواعد الشرع والحكمة أيضا : أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره ، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره ؛ فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم) وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من حس عليه وعلى المسلمين [يعني : تجسس ، ونقل أخباره إلى الأعداء] وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا ، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم ، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم ، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات .
وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم : أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها ... كما قيل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر :
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللاتي سررن كثير" انتهى .
"مفتاح دار السعادة" (1/176-177) .
وليست هذه العبارة وأمثالها من الإرجاء في شيء ؛ فإن أصل بدعة الإرجاء في قولهم : إن الإيمان تصديق بالقلب فقط ، وبعضهم يزيد على ذلك الإقرار باللسان ، ولا يشترط له العمل الصالح ، ولا تضره المعصية مهما كانت .
كما أن هذه العبارة وأشباهها ليست من ادعاء الغيب ؛ فإن الناس يشهدون على الرجل بصلاحه أو فساده بما يظهر لهم من فعله ، وليس هذا من ادعاء علم الغيب ، إنما الغيب فيما له عند الله ، وهل قبلت أعماله أو ردت عليه ؟ وهل هو من أهل الجنة أو من أهل النار ؟ ونحو ذلك .
والمقصود من هذه العبارة أن حسنات الرجل الظاهرة كثيرة ، تستهلك فيها هفوته أو هفواته اليسيرة ، كما تستهلك النجاسة اليسيرة في الماء الكثير ، وليس معناها أن حسناته قد قبلت منه ؛ فإن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
والله أعلم .