الحمد لله.
أولاً :
روى ابن ماجه (2291) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا ، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي ! فَقَالَ : (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) .
ورواه ابن ماجة أيضا (2292) وأحمد (6863) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أَبِي اجْتَاحَ مَالِي ! فَقَالَ : (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) .
صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
واللام في قوله صلى الله عليه وسلم : (لِأَبِيكَ) ليست للتمليك ، فالوالد لا يملك مال ولده ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الولد وماله بقوله : (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) ومعلوم أن الولد حر لا يملكه أبوه ، فكذلك ماله أيضاً .
وذهب أكثر العلماء إلى أن المقصود بالحديث : أن الولد يبر أباه بنفسه وماله بقدر استطاعته ، ولا يخرج عن أمره في ذلك .
وذهب آخرون إلى أن اللام للإباحة ، فقالوا : يباح للأب أن يأخذ من مال ولده .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" قوله صلى الله عليه وسلم : (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) ليس على التمليك ، وكما كان قوله عليه الصلاة والسلام : (أَنْتَ) ليس على التمليك ، فكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (وَمَالُك) ليس على التمليك ، ولكنه على البر به والإكرام له " انتهى .
"الاستذكار" (7/525) .
وقال الطحاوي رحمه الله :
" سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْعَبَّاسِ عَنْ الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : الْمُرَادُ بِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك) فَجَمَعَ فِيهِ الِابْنَ وَمَالَ الِابْنِ فَجَعَلَهُمَا لِأَبِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ جَعْلُهُ إيَّاهُمَا لِأَبِيهِ عَلَى مِلْكِ أَبِيهِ إيَّاهُ ، وَلَكِنْ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِ أَبِيهِ فِيهِ ، فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : (مَالُكَ لِأَبِيك) لَيْسَ عَلَى مَعْنَى تَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مَالَهُ ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى : أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ .
وَسَأَلْت ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ عَنْهُ فَقَالَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك) كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنَّمَا أَنَا وَمَالِي لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ)" انتهى .
"مشكل الآثار" (2/455) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"وَاللَّامُ فِي الْحَدِيثِ [يعني في قوله : (لِأَبِيك)] لَيْسَتْ لِلْمِلْكِ قَطْعًا ، وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ : وَلَا لِلْإِبَاحَةِ إذْ لَا يُبَاحُ مَالُ الِابْنِ لِأَبِيهِ ،.. وَمَنْ يَقُولُ هِيَ لِلْإِبَاحَةِ أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ ، وَإِلَّا تَعَطَّلَتْ فَائِدَتُهُ وَدَلَالَتُهُ" انتهى .
"إعلام الموقعين" (1/154) .
وقال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله :
"هذا الحديث ليس بضعيف لشواهده ، ومعنى ذلك : أن الإنسان إذا كان له مال : فإنَّ لأبيه أن يتبسَّط بهذا المال ، وأن يأخذ من هذا المال ما يشاء لكن بشروط :
الشرط الأول : ألا يكون في أخذه ضرر على الابن ، فإن كان في أخذه ضرر كما لو أخذ غطاءه الذي يتغطى به من البرد ، أو أخذ طعامه الذي يدفع به جوعه : فإن ذلك لا يجوز للأب .
الشرط الثاني : أن لا تتعلق به حاجة للابن ، فلو كان عند الابن سيارة يحتاجها في ذهابه وإيابه وليس لديه من الدراهم ما يمكنه أن يشتري بدلها : فليس له أن يأخذها بأي حال .
الشرط الثالث : أن لا يأخذ المال مِن أحد أبنائه ليعطيه لابنٍ آخر ؛ لأن ذلك إلقاء للعداوة بين الأبناء ، ولأن فيه تفضيلاً لبعض الأبناء على بعض إذا لم يكن الثاني محتاجاً ، فإن كان محتاجاً : فإن إعطاء الأبناء لحاجة دون إخوته الذين لا يحتاجون : ليس فيه تفضيل بل هو واجب عليه .
وعلى كل حال : هذا الحديث حجة أخذ به العلماء واحتجوا به ، ولكنه مشروط بما ذكرنا" انتهى . "فتاوى إسلامية" (4/136) .
وهناك شرط رابع ذهب إلى القول به جمهور العلماء ، خلافاً للإمام أحمد رحمهم الله ، وهو :
أن يأخذ الأب مال ولده لحاجته إليه ، فإن كان غير محتاج ، فلا يجوز له أن يأخذ منه شيئاً إلا برضى ولده .
وقد استدلوا على ذلك بعدة أحاديث ، منها : ما رواه الحاكم (3123) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أولادكم هبة الله لكم [يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ] فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها) . صححه الحاكم على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" ( 2564 ) ، وقال :
"وفي الحديث فائدة فقهيَّة هامَّة ، وهي أنه يبيِّن أن الحديث المشهور (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) ليس على إطلاقه ، بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء ، كلا ، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه . والله أعلم" انتهى .
قال ابن قدامة رحمه الله - بعد أن ذكر أن مذهب الإمام أحمد أن للأب أن يأخذ من مال ولده مع حاجة الأب وعدمها - قال :
"وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : ليس له أن يأخذ من مال ولده إلا بقدر حاجته ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) متفق عليه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) رواه الدارقطني ؛ ولأن ملك الابن تام على مال نفسه , فلم يجز انتزاعه منه" انتهى من "المغني" (5/395) باختصار .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" الحديث يعم الابن والبنت ، ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها : (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم) رواه الخمسة . لكن يشترط ألا يكون في ذلك ضرر بيّن على الولد ذكرا كان أو أنثى ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار) ، وما جاء في معناه من الأدلة ، وأن لا يأخذ الوالد ذلك تكثرا ، بل يأخذه لحاجة" انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (21/181) .
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
"لا شك أن الوالد له حق ، والبر به واجب ، وله أن يأخذ من مال ولده وراتبه ومهر ابنته وراتبها ما لا يضر بهما ولا يحتاجانه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) .
وليس للوالد أن يضر ولده ؛ بأن لا يترك معه شيئًا من المال لحاجته ، وإنما يأخذ ما زاد على ذلك إذا احتاج إليه" انتهى .
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (55/1) .
ثانياً :
أما بيع الأب لما يملكه ولده ، فإن باعه قبل أن يتملكه فلا يصح ذلك ، لأنه باع شيئاً لا يملكه .
وأما إن باعه بعد أن تملكه ، فإن كان الأب محتاجاً إلى هذا المال ، والولد غير محتاج إليه فيجوز له ذلك ، وأما مع حاجة الولد ، أو عدم حاجة الأب ، وإنما كان يأخذ المال إسرافاً وتبذيراً ، فلا يجوز ذلك .
قال ابن الأثير رحمه الله :
"قال الخطابي : يُشْبِه أن يكُون ما ذكَره من اجْتِيَاح وَالِده مَالَه أن مقْدّار ما يَحْتاجُ إليه في النَّفَقة شيء كثير لا يَسَعُه مَالُه إلاَّ أنْ يَجْتَاح أصْلَه ، فلم يُرَخّص له في تَرْك النَّفَقة عليه . وقال له : أنْت ومَالُك لأبيك . علَى مَعْنى أنه إذا احْتَاج إلى مَالك أخَذَ مِنْك قَدْرَ الحاجَة ، وإذا لم يكُن لك مَالٌ وكان لك كَسْب لَزمَك أن تَكْتَسب وتُنْفقَ عليه .
فأمَّا أن يكون أرادَ به إباحَة مَاله له حَتَّى يَجْتَاحَه ويأتي عَليه إسْرَافاً وتَبْذيراً فَلا أعْلَم أحَداً ذهب إليه" انتهى .
"النهاية في غريب الأثر" (1/834) .
والله أعلم