أستفسر عن بعض الأدعية ، مثلاً : " اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات " ، " اللهم اغفر لنا جميعاً " ، هل تجوز مثل تلك الأدعية مع أن تحققها مخالف لإرادة الله ؟ وكيف نرد على من يشكك في مثل تلك الدعوات عند صدورها في أوقات الإجابة ؟ .
الحمد لله.
أولاً:
الدعاء بالمغفرة للمسلمين والمسلمات على سبيل العموم : لا حرج فيه ، ويدل على هذا الجواز بضعة أدلة ، منها :
1. قوله تعالى ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) محمد/ 19 .
عن عاصِم الأحول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا - أَوْ قَالَ : ثَرِيدًا - قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكَ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) .
رواه مسلم ( 2346 ) .
وفي تفسير قوله تعالى ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) أقوال ، وأحد هذه الأقوال فيه إيجاب الاستغفار لجميع المسلمين .
قال القرطبي – رحمه الله - :
وقيل : الخطاب له ، والمراد به : الأمَّة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين .
" تفسير القرطبي " ( 16 / 242 ) .
وعن ابن جريج قال : قلتُ لعطاء : أَستَغفرُ للمؤمنين والمؤمنات ؟ قال : نعم ، قد أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك ، فإنَّ ذلك الواجبَ على الناس ، قال الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : ( اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) ، قلتُ : أفتدع ذلك في المكتوبة أبداً ؟ قال : لا ، قلت : فبِمَن تبدأ ، بنفسك أم بالمؤمنين ؟ قال : بل بنفسي ، كما قال الله : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) .
2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ .
رواه الترمذي ( 1024 ) وأبو داود ( 3201 ) النسائي ( 1986 ) .
قال ابن علان الصدِّيقي – رحمه الله - :
( اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا ) أي : لجميع أحيائنا ، وأمواتنا ، معشر المسلمين ، لأن المفرد المضاف حيث لا عهد : للعموم .
" دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين " ( 6 / 240 ) .
3. وهو فعل الملائكة عليهم السلام ، كما قال تعالى عنهم : ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ ) الشورى/ 5 .
4. وهو فعل الأنبياء ، والصحابة ، والتابعين ، وجماهير العلماء ، من المتقدمين ، والمتأخرين .
أ. قال نوح عليه السلام : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) نوح/ 28 .
ب. وقال إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) إبراهيم/ 41 .
ج. وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
روى عبد الرزاق في " المصنف " ( 3 / 111 ) عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يأثر عن عمر بن الخطاب في القنوت أنه كان يقول : " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم ... " .
رَوَاهُ البَيْهَقِيّ في " السنن الكبرى " ( 2 / 210 ) وَقَالَ : صَحِيح مَوْصُول .
" تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج " ( 1 / 410 ) .
د. وهو وصية ابن عباس رضي الله عنهما :
ففي " فضل الصلاة على النبي " لإسماعيل القاضي ( ص 67 ) - وصححه الشيخ الألباني - عن ابن عباس أنه قال : لا تصلوا صلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار .
هـ. وهو قول عموم المؤمنين ، كما أخبر الله عنهم في قوله : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) الحشر/ 10 .
وفي جواب السؤال رقم ( 104460 ) نص في جواز ذلك الدعاء – بل والحث عليه – عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وفي الجواب نفسه تخريج لأحاديث مرفوعة ضعيفة في الباب .
ثانياً:
أما قول من عارض هذا الدعاء بأن الله تعالى قد قدَّر أن لا تكون مغفرة لعموم المسلمين ، وأنه لا شك سيدخل منهم طائفة النار : فهي معارضة لا تسلم لقائلها ؛ لأنه خلط " القدر " بـ " الشرع " ، فنحن مأمورون – أو يستحب لنا – بالشرع : الدعاء لعموم المسلمين بالمغفرة ، وهو لا يتعارض مع ما ليس لنا به تعلق مما قدَّره الله تعالى على طائفة من المسلمين ، ومما يدل على ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد علَّمنا أدعية الاستغفار ، وأوصى المسلمين بذكرها وقولها ، ونحن على علم أنه لن يستجاب لطائفة من قائليها ، وما ذكرناه من أدلة – أيضاً - يؤكد خطأ من منع منها ، ويؤكد سلامة الدعاء بعموم المغفرة للمسلمين والمسلمات .
وأقدم من رأيناه يعترض على هذا الدعاء هو أبو العباس القرافي – توفي 684 هـ - حيث جعل الدعاء بذلك من المحرمات ! فقال :
الفروق مع هوامشه - (4 / 463)
القسم الخامس في المحرم الذي ليس بكفر : أن يطلب الداعي من الله تعالى نفي ما دل السمع الوارد بطريق الآحاد على ثبوته ، وقولي " بطريق الآحاد " : احتراز من المتواتر ؛ فإن طلب نفي ذلك من قبيل الكفر - كما تقدم - ، وله أمثلة :
الأول : أن يقول " اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم " ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة أنه لا بدَّ من دخول طائفة من المسلمين النار ، وخروجهم منها ، بشفاعة وبغير شفاعة ، ودخولهم النار إنما هو بذنوبهم ، فلو غفر للمسلمين كلِّهم ذنوبَهم كلها : لم يدخل أحد النار ، فيكون هذا الدعاء مستلزماً لتكذيب تلك الأحاديث الصحيحة ! فيكون معصية ، ولا يكون كفراً ؛ لأنها أخبار آحاد والتكفير إنما يكون بجحد ما علم ثبوته بالضرورة أو بالتواتر ... .
طلب الملائكة المغفرة للمؤمن بقولهم ( فاغفر للذين تابوا ) وقوله تعالى ( ويستغفرون لمن في الأرض ) : لا عموم في تلك الألفاظ ؛ لكونها أفعالاً في سياق الثبوت ، فلا تعم ، إجماعاً ، ولو كانت للعموم : لوجب أن يُعتقد أنهم أرادوا بها الخصوص ، وهو المغفرة من حيث الجملة ؛ للقواعد الدالة على ذلك ... .
" الفروق مع هوامشه " ( 4 / 463 - 465 ) .
وقد تعقبه " أبو القاسم بن الشاط المالكي " رحمه الله – توفي 723 هـ - فقال – كما في هامش " الفروق " المسمى " إدرار الشروق " ( 4 / 488 ) - :
وما قاله من الدعاء بهذه الأدعية ونحوها معصية : مجرد دعوى ، ومِن أين يلزم أن لا يُدعى إلا بما يجوز وقوعه ؟! لا أعرف لذلك وجهاً ، ولا دليلاً .
وما المانع من أن يكلِّف الله خلقه أن يطلبوا منه المغفرة لذنوب كلِّ واحدٍ من المؤمنين ، مع أنه قد قضى بأن منهم من لا يغفر له ؟! ومِن أين يلزم المنافاة بين طلب المغفرة ووجوب نقيضها ؟! هذا أمر لا أعرف له وجهاً إلا مجرد التحكم بمحض التوهم .
وما قاله من أنه لا عموم في قوله تعالى ( فاغفر للذين تابوا ) ، وقوله تعالى ( ويستغفرون لمن في الأرض ) لكونها أفعالاً في سياق الثبوت : خطأ فاحش ؛ لأنه التفت إلى الأفعال دون ما بعدها من معمولاتها ، والمعمولات في الآيتين لفظاً : عموم .
وبالجملة : فقد كلَّف هذا الإنسان نفسَه شططاً ، وادَّعى دعوى لا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ؛ وهماً منه وغلطاً .
انتهى
وسئل الشيخ عبد الكريم الخضير – حفظه الله - :
ما وجهة من يقول : إن الدعاء على الكافرين فيه تعد ؛ لأن في علم الله أنهم موجودون إلى يوم القيامة ؟ .
فأجاب :
المسلم مطالب بأن يدور مع الإرادة الشرعية ، أما الإرادة الكونية القدرية : ليس مطالباً بها ، لقائل أن يقول : لماذا تدعو لعموم المسلمين والله يعلم أن منهم من يموت وهو مرتكب كبيرة ؟ نعم ، وُجد مَن يمنع حتى هذا من أهل العلم ، من يقول : لا يجوز الدعاء لعموم المسلمين ، وُجد مَن يمنع الدعاء لعموم المسلمين لأن في علم الله أن من يموت وهو مرتكب كبيرة ، هذا مخالف الإرادة الكونية ! إذاً لا تدعو لنفسك ، الله أعلم بما يختم لك به ! ولا تدعو لولدك ، الله أعلم بما يستمر عليه ! أنت مطالب بالدعاء ، وهذه المطالبة إرادة شرعية ، إما الإرادة الكونية : فهي لله جل وعلا ليست لك .
" شرح الموطأ " كتاب الجنائز ، بَاب : " النَّهْيِ عَنْ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ " .
والله أعلم