الحمد لله.
هذا الحديث من فتن آخر الزمان التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو كائن قبل يوم القيامة لا أثناءه ، وذلك حين يكثر الجهل ، ويرفع العلم ، ويقل الصالحون ، ويكثر المفسدون ، وتقع الأحداث العظام ، فحينها يكثر القتل بين الناس ، وينتشر الهرج بينهم ، ويكون ذلك في فتن عظيمة يحار فيها الناس ، ولا يميزون – لجهلهم ولشدة الفتن يومئذ – الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، وإنما يتحزبون لأطماع الدنيا ، وأهواء النفس وشهواتها ، فيقع القتل ، ولا يدري القاتل لماذا قَتَل ، ولا يدري المقتول عن سبب قتله .
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ، فَقِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : الْهَرْجُ ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ )
رواه مسلم (2908)
وعنه رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ )
رواه البخاري (1036) ومسلم (157)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :
( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ . قِيلَ : وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَال : الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ . قَالُوا : أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ . قَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا ؟ قالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ )
رواه أحمد في " المسند " (32/409) وصححه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة، وصححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/1682)
يقول القرطبي رحمه الله :
" بيَّنَ هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب دنيا ، أو اتباع هوى ، فهو الذي أريد بقوله : ( القاتل والمقتول في النار ) " انتهى.
" فتح الباري " (13/34)
ويقول الإمام النووي رحمه الله :
" وأما كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له ، ويكون قتالهما عصبية ونحوها " انتهى.
" شرح مسلم " (18/15)
والذي يتحصل من هذه الأحاديث أن القتل يكثر في آخر الزمان ، ولا يكون مبرَّرًا معروف الأسباب ، وذلك يمكن أن يقع في الحالات الآتية :
1-في حالات قتال الفتنة التي يشتبه فيها الحق بالباطل ، فلا يظهر للناس وجه الصواب فيها، ويقع القتال بينهم ، فلا يدري حينئذ القاتل فيم قَتَل ، ولا المقتول لماذا قُتِل ، ومعنى : ( لا يدري ) الواردة في الحديث – بناء على هذا الوجه - أنهم لا يعرفون الحق من الباطل في الفتنة التي أدت إلى القتل ، وإلا فهم يعرفون وقوع الفتنة نفسها .
2-وقد يقع مثل هذا القتل أيام الحروب العصبية ، التي يقع فيها القتل بسبب التعصب للقبيلة أو الطائفة ، ويكون المقاتل جاهلا أهوجَ ، إنما شارك في القتال لاستغاثة أهل قبيلته أو طائفته به ، وهو لا يدري عن سبب وقوع القتال شيئا .
3-ويمكن أن يكون في حالة وقوع القتل العشوائي العام ، كالقتل بأسلحة الدمار الشامل ، فيصاب بهذه الأسلحة كثير من الأبرياء ، فلا يعرف المقتول لماذا قتل ، ولا يعرف القاتل لماذا قتل هؤلاء الأبرياء ، فجملة ( لا يدري ) في الحديث على حقيقتها ، فلا القاتل ولا المقتول يعرفان سبب القتل ، لأنه قتل عشوائي .
4-ومنه أيضا : ما يحصل من السفهاء من التحرش بالناس بالقتل لسفاهته وحمقه والتذاذه، فيقتل الآخرين ، فيصدق عليهما الحديث .
5-ومنه أيضاً : أن المعنى ( لا يدري ) أي : الوجه الشرعي في القتل ، كما جاء في " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (15/352) ترقيم الشاملة: " ( لا يدري القاتل فيم قَتل ) أي : المقتول هل يجوز قتله أم لا ، ( ولا المقتول ) أي : نفسه أو أهله ( فيم قُتل ) هل بسبب شرعي أو بغيره ، كما كثر النوعان في زماننا" انتهى.
وعلى كلٍّ : نسأل الله تعالى السلامة والعافية ، وأن يحفظنا والمسلمين من هذه الأحوال .
والله أعلم .