أنا ولله الحمد أريد أن أكون ورعة دائما فكلما سمعت خلاف بين العلماء عن مسألة أهي حرام أم حلال أتركها اتقاء للشبهة لكن ماذا لو كان الخلاف بين العلماء عن أمر مثل أمر قراءة القرآن للحائض أهو حرام فتأثم من تقرأه (وأنا حريصة على تجنب الإثم) أم هو جائز وبالتالي تثاب من تقرأه (وأنا حرصة أيضا على تحصيل الثواب ) كما أني ولله الحمد قاربت على إكمال حفظ القرآن وأحتاج إلى مراجعته دائما . لا أريد أن أعرف حكم مثل هذه الأشياء ولكني أريد أن أعرف كيف يكون الورع في مثل هذه المسائل .
الحمد لله.
أولا :
قراءة القرآن للحائض محل خلاف بين الفقهاء ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (2564) وجاء فيه بعد ذكر أدلة القولين : " فتبين مما سبق قوة أدلة قول من ذهب إلى جواز قراءة الحائض للقرآن ، وإن احتاطت المرأة واقتصرت على القراءة عند خوف نسيانه فقد أخذت بالأحوط ".
وهذا توسط بين القولين ، فراعى قول الجمهور وهو التحريم ، وقول من أجازه كمالك رحمه الله ، مع قوة دليل المجيز .
ثانيا :
الذهاب للورع ، والعمل بالاحتياط ، والخروج من الخلاف ، كل ذلك محمود في الجملة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ) رواه البخاري (52) ومسلم (1599).
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ ) رواه الترمذي (2518) والنسائي (5711) وقال الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
لكن هل يراعى الخلاف في كل مسألة ، أو فيما كانت الأدلة فيه قوية للطرفين ؟ أو فيما خفيت فيه الأدلة ؟
وما هو الأكمل للمسلم : أن يطلب العلم ليتبين له القول الراجح ، أم يقف عند الخلاف ويحاول الخروج منه بالاحتياط ؟
ثم إن الاحتياط يتعذر أحيانا - كما سيأتي مثاله - ، والاحتياط قد يحرم الإنسان من أجر كثير ، كما في مسألتك .
ولهذا : فالأكمل أن يسعى الإنسان لمعرفة الراجح من أقوال أهل العلم ، فإن لم يمكنه ذلك فليستفت من يثق بدينه وعلمه وليعمل بقوله ، فإن هذا فرض المقلد كما قال تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43 .
فإن بلغه القولان المتعارضان ، فليتبع قول الأوثق والأعلم بحسب ظنه .
وأما الاعتماد على الاحتياط مطلقا فقد يدخل المشقة على الإنسان ، أو يحرمه من الفضل .
ولنضرب لذلك أمثلة :
1- رفع اليدين في تكبيرات الانتقال في الصلاة : سنة مستحبة عند قوم ، ومبطلة للصلاة عند آخرين ، مع ثبوتها بالسنة المتواترة ، فهل تترك السنة هنا لأجل الاحتياط ؟
2- تكرار العمرة في السنة : منعه مالك ، واستحبه غيره ، فهل يحرم الإنسان نفسه من الأجر عملا بالاحتياط ؟
3- وقت العصر : لا يدخل عند الحنفية إلا إذا صار ظل كل شيء مثليه ، وهذا هو آخر وقت العصر الاختياري عند الجمهور ، فالاحتياط هنا متعذر .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ونظيرها في العبادات اختلاف العلماء متى يدخل وقت العصر؟ فقال بعض العلماء : لا يدخل وقت العصر إلا إذا صار ظل كل شيء مثليه ، وقال الجمهور : يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله ، ويحرم أن تؤخر الصلاة حتى يصير ظل كل شيء مثليه ، فكيف تحتاط ؟ إن صليت قبل أن يصير ظل كل شيء مثليه ، قال لك أولئك : حرام عليك ، وصلاتك ما تصح ، وإن صليت عقب ما يصير ظل كل شيء مثليه ، قال لك الآخرون : تأخيرك الصلاة إلى هذا الوقت حرام ، فأنت في مشكلة ، فما ترجح ؟ فمثل هذه المسائل جانب الاحتياط فيها يكون متعذرا ، فلا يبقى أمام طالب العلم إلا أن يسلك طريقا واحدا ، ويجتهد بقدر ما يستطيع في معرفة الصواب من القولين ، ويستخير الله ويمشي عليه " انتهى من "الشرح الممتع" (13/ 50).
والمقصود أن الاحتياط لا ينبغي أن يعتمد مسلكا في جميع مسائل الخلاف ، بحيث يفوّت على الإنسان أجرا عظيما ، أو يدخل عليه مشقة ظاهرة ، بل يعمل به في المسائل التي قوي فيها الخلاف ، وعسر الترجيح ، أو كان يترتب على الاحتياط زيادة الأجر والفضل ، أو السلامة من الإثم والكراهة دون أن يفوته شيء من الخير .
وقد نص فقهاء المذاهب على أن مراعاة خلاف المذاهب الأخرى ، له ضوابط وشروط .
ومن أمثلة ذلك قول السيوطي رحمه الله في شروط مراعاة الخلاف :
" أحدها : أن لا توقع مراعاته في خلاف آخر ، ومن ثَمَّ كان فصل الوتر أفضل من وصله ، ولم يراع خلاف أبي حنيفة ؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثاني : أن لا يخالف سنة ثابتة ، ومن ثَمَّ سُنَّ رفع اليدين في الصلاة ، ولم يبال بقول من قال بإبطاله الصلاة من الحنفية ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية خمسين صحابيا.
الثالث : أن يقوى مُدركه بحيث لا يعد هفوة. ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه ، ولم يبال بقول داود : إنه لا يصح " انتهى من "الأشباه والنظائر" ص 137 .
وأضاف الزركشي رحمه الله : " وكذلك يضعف الخروج من الخلاف إذا أدى إلى المنع من العبادة لقول المخالف بالكراهة ، أو المنع ، كالمشهور من قول مالك : إن العمرة لا تتكرر في السنة ، وقول أبي حنيفة : إنها تكره للمقيم بمكة في أشهر الحج ، وليس التمتع مشروعا له ، وربما قالوا : إنها تحرم ، فلا ينبغي للشافعي مراعاة ذلك ، لضعف مأخذ القولين ولما يفوته من كثرة الاعتمار ، وهو من القربات الفاضلة . أما إذا لم يكن كذلك فينبغي الخروج من الخلاف لا سيما إذا كان فيه زيادة تعبد كالمضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة يجب عند الحنفية وكذلك الاستنشاق عند الحنابلة في الوضوء ، والغسل من ولوغ الكلب ثماني مرات والغسل من سائر النجاسات ثلاثا لخلاف أبي حنيفة وسبعا لخلاف أحمد ، والتسبيح في الركوع والسجود لخلاف أحمد في وجوبها ، والتبييت في نية صوم النفل ، فإن مذهب مالك وجوبه ، وإتيان القارن بطوافين وسعيين مراعاة لخلاف أبي حنيفة ، والموالاة بين الطواف والسعي لأن مالكا يوجبها ، وكذلك التنزه عن بيع العينة ونحوه من العقود المختلف فيها " انتهى من "المنثور في القواعد" (2/ 132).
والله أعلم .