الحمد لله.
ثانيا :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ ، وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - أَنَّهَا
وَاجِبَةٌ ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ ، وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ .
وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ .
"الموسوعة الفقهية" (28 / 316-317)
والقول بوجوب ضيافة يوم وليلة هو الراجح .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" والواجب يوم وليلة ، والكمال ثلاثة أيام " انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" إن للضيف حقّاً على مَن نزل به ، وهو ثلاث مراتب : حق واجب ، وتمام مستحب ، وصدقة
من الصدقات ، فالحق الواجب : يوم وليلة , وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراتب
الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي " انتهى .
"زاد المعاد" (3/658) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
" والحق وجوب الضيافة لأمور :
الأول : إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك ، وهذا لا يكون في غير واجب .
والثاني : التأكد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر يفيد أن فعل
خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها ، ثم
تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولي .
والثالث : قوله : ( فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) فإنه صريح في أن ما قبل ذلك غير
صدقة بل واجب شرعا .
قال الخطابي : يريد أن يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف ، ويقدم له
في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته ، فما جاوز الثلاث فهو معروف
وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك " انتهى .
"نيل الأوطار" (9 / 30) .
ثالثا :
الضيف المقصود بالإكرام هو المسافر الذي يجتاز بغيره في الطريق ، وليس المراد به من
كان من أهل البلد ، فذهب إلى بيت صاحبه .
واختلف أهل العلم القائلون بوجوب الضيافة ، هل هذا الوجوب على كل أحد ، أو هو خاص
بحال دون حال .
قال ابن رجب رحمه الله :
" وقال حُميدُ بن زَنجويه : ليلةُ الضَّيف واجبةٌ ، وليس له أنْ يأخذَ قِراه منهم
قهراً ، إلاَّ أنْ يكونَ مسافراً في مصالح المسلمين العامَّة دونَ مصلحة نفسه ...
ونقل عليُّ بن سعيدٍ ، عن أحمدَ ما يدلُّ على وجوب الضيافة للغُزاة خاصَّةً بمن
مرُّوا بهم ثلاثةَ أيَّامٍ ، والمشهور عنه الأولُ ، وهو وجوبُها لكلِّ ضيفٍ نزلَ
بقومٍ .
واختلف قوله : هل تجبُ على أهلِ الأمصار والقُرى ، أم تختصُّ بأهلِ القُرى ومَنْ
كان على طريقٍ يمرُّ بهم المسافرون ؟ على روايتين منصوصتين عنه "انتهى من "جامع
العلوم" (142).
وينظر جواب السؤال رقم : (128791)
.
ثالثا :
إذا ترك المضيف حق ضيفه عليه ، فلم يقدم له ما يحتاجه ، فهل له أن يأخذ بقدر ضيافته
بالمعروف ، ولو لم يأذنوا به ؟
إلى ذلك ذهب بعض أهل العلم القائلين بوجوب الضيافة ، وهي إحدى الروايتين عن الإمام
أحمد ؛ لأن الشرع قد جعل ذلك حقا له ، فإن لم يعطه المضيف طوعا ، كان له أن يأخذه
قهرا ؛ إما بنفسه ، أو عن طريق القضاء . لما رواه أبو داود (3804) عَنْ
الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ
يَقْرُوهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ )
وروى الإمام أحمد (8725) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ
فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا
حَرَجَ عَلَيْهِ ) .
صححه الألباني في "الصحيحة" (640) .
وروى البخاري (6137) ومسلم (1727) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا
فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ
فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا ، فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ ) .
قال الإمام أحمد رحمه الله :
" يعني أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم " انتهى . من
"المغني" (9/343) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الضيف إذا نزل بشخص وامتنع من ضيافته فإن للضيف أن يأخذ من ماله ما يكفيه لضيافته
بالمعروف من غير علمه ؛ لأن الحق في هذا ظاهر ؛ فإن الضيف إذا نزل بالشخص يجب عليه
أن يضيفه يوما وليلة حقاً واجباً ، لا يحل له أن يتخلف عنه " انتهى .
"فتاوى نور على الدرب" (234 / 8) .
وذهب جمهور العلماء إلى أن
الضيف لا يحل له أن يأخذ من مال مضيفه شيئا بغير إذنه ، حتى ولو يقدم له ما ينبغي
في ضيافته ، أو لم يضفه أصلا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَا يَحِلُّ
مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ) رواه أحمد (20172) وصححه الألباني .
وهذا ظاهر على مذهب الجمهور الذين يرون الضيافة مكرمة ومستحبة ، ولا يرون وجوبها من
حيث الأصل .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
"وقد روى الربيع عن الشافعي أنه قال : الضيافة على أهل البادية والحاضرة حق واجب في
مكارم الأخلاق ، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة .
وقال سحنون إنما الضيافة على أهل القرى وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر" انتهى
. من التمهيد(21/43) .
وأما على مذهب الإمام أحمد
في وجوب الضيافة ، فقد سبق النقل ـ في رواية عنه ـ أن ذلك خاص بالغزاة في سبيل الله
فقط ، وأما غيرهم فلا يأخذ إلا ما أعطاه المضيف .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الضِّيَافَةِ ,
أَيَّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِيهَا ؟ قَالَ هِيَ مُؤَكَّدَةٌ , وَكَأَنَّهَا عَلَى
أَهْلِ الطُّرُقِ وَالْقُرَى الَّذِينَ يَمُرُّ بِهِمْ النَّاسُ أَوْكَدُ ,
فَأَمَّا مِثْلُنَا الْآنَ , فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ أُولَئِكَ " انتهى . من
"المغني" (9/343) .
والخلاصة :
أنه حق الضيف واجب في الأظهر ، على ما سبق ، وأما إذا امتنع مضيفه من حقه ، فقد
اختلف أهل العلم : هل له أن يأخذ حقه منه قهرا ، كما هو ظاهر الأحاديث السابقة ، أو
لا يحل له ذلك ؟
والأحوط ألا يأخذ شيئا منه قهرا ، لقوة الخلاف فيه ، واحتمال خصوصية الأخذ قهرا
ببعض الأحوال ، كالمضطر إلى الضيافة ، أو نحو ذلك .
وينظر : "فتح الباري" ، لابن حجر (5/108) ، "استيفاء الحقوق من غير قضاء" للدكتور
فهد اليحي (148-153) .
والله أعلم .