الحمد لله.
التوبة في الشريعة الإسلامية مقبولة من ك ذنب ، لقول الله تعالى : (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) الزمر/53 .
قال ابن كثير رحمه الله : وهذا عام في كل ذنب ، من كفر وشرك وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك ، كل من تاب من أي من ذلك تاب الله عليه" انتهى .
أما من حيث إسقاط التوبة للعقوبة في الدنيا فذلك يختلف باختلاف الذنب الذي تاب منه .
فالتوبة من الكفر ، وذلك بالدخول في الإسلام يسقط عقوبة الدنيا ، فمن أعلن إسلامه فقد عصم دمه وماله ، وحرم قتله وأخذ ماله ، ويدل على ذك حديث أسامة رضي الله عنه الذي ذكره السائل.
فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ – اسم مكان -، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا أُسَامَةُ ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ! قُلْتُ : كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ) رواه البخاري (4269) ، ومسلم (96) .
وأما قاطع الطريق فإنه إن تاب قبل القدرة عليه فإن توبته تسقط عنه الحد ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة/33-34 .
جاء في " الموسوعة الفقهية " (14/130) :
"اتفق الفقهاء على أن جريمة قطع الطريق (الحرابة) تسقط بتوبة القاطع قبل أن يُقدَر عليه ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فدلت هذه الآية على أن قاطع الطريق إذا تاب قبل أن يُظفَر به سقط عنه الحد" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إن تاب قطاع الطريق :
فإن كان بعد القدرة عليهم : فلا تقبل توبتهم .
وإن كان قبل : قُبِلَت ، ودليل ذلك قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة/34 ، فوجه الدلالة من الآية أن ختمها باسمين كريمين ، يدلان على العفو والمغفرة ، وأن مقتضى رحمته ومغفرته جل وعلا أن يغفر لهؤلاء ويرحمهم .
وفهم من قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أنهم لو تابوا بعد القدرة فإنه لا تسقط عنهم العقوبة ؛ والحكمة من ذلك : أنهم إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإنه دليل على أن توبتهم صادقة ، فيتوب الله عليهم ، أما إذا تابوا بعد القدرة عليهم فإن القرينة تدل على أن توبتهم خوفاً من النكال والعقوبة ، فلذلك لا تقبل .
أما الكافر فتقبل توبته ولو بعد القدرة عليه ، فإذا كان كافر حربي يظهر العداوة للمسلمين ، فقدرنا عليه ، فتاب بعد أن قدرنا عليه : فإننا نرفع عنه القتل ، لقول الله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) الأنفال/38 ، وهذا عام .
ولحديث أسامة رضي الله عنه في قصة المشرك الذي لحقه أسامة حتى أدركه ، فلما علاه بالسيف قال : لا إله إلا الله ، فقتله أسامة ، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك ، فقال له : (أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟! قال : نعم يا رسول الله ، إنما قالها تعوُّذاً ، قال : قتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟! قال : نعم ، فما زال يرددها عليه حتى قال أسامة : تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد .
مع أن الرجل حسب ما يظهر - والعلم عند الله - قالها تعوذاً ، لكن فيه احتمال أنه قالها عن صدق ، وأنه لما رأى الموت قالها" انتهى باختصار .
"الشرح الممتع" (14/381-382) .
والحاصل : أنه لا تعارض بين الآية والحديث ، فالإسلام هو أفضل الحسنات ، ولذلك يغفر ذنوب صاحبه كلها ، ويسقط عنه العقوبة في الدنيا ، ولو كان بعد القدرة عليه .
وفي ذلك ترغيب للناس في الإسلام .
أما قاطع الطريق ، فلا تسقط توبته عنه العقوبة في الدنيا إلا إذا كانت قبل القدرة عليه .
وذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن جميع الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة عليه .
وانظر : "الإنصاف" (10/300) ، و "المجموع" (22/240) .
والله أعلم .