الحمد لله.
ولم نقف في أي من روايات الحديث على التصريح بالشفاعة
، ولكن معناها داخل ضمن الحديث : كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" في قوله : ( لا أغني شيئا ) إضمار : إلا إن أذن الله لي بالشفاعة " انتهى.
" فتح الباري " (8/502)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قوله : ( قام )، أي : خطيبا .
قوله : ( أنزل عليه )، أي : أنزل عليه بواسطة جبريل : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ )
الشعراء/214.
قوله : ( أنذر )، أي : حذِّر وخوِّف ، والإنذار : الإعلام المقرون بتخويف .
قوله: ( عشيرتك )، العشيرة : قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون .
قوله : ( الأقربين ) ، أي : الأقرب فالأقرب ؛ فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده ،
ثم آباؤه ، ثم إخوانه ، ثم أعمامه ، وهكذا .
ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار ؛ لأن الحكم المعلق على وصف يقوى
بقوة هذا الوصف ، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين ، كان الحكم فيه
أظهر وأبين.
وقوله : ( حين أنزل عليه ) يفيد أنه لم يتأخر صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بل قام ، فقال : ( يا معشر قريش ) ؛ أي : يا جماعة
قريش .
وقريش : هو فهر بن النضر بن مالك ، أحد أجداد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
قوله : ( أو كلمة نحوها ) ، أي : أو قال كلمة نحوها ، أي شبهها ، وهذا من احتراز
الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا : أو كما قال ، أو كلمة نحوها ، وما أشبه ذلك ،
وعليه فـ ( أو ) : للشك والتردد .
قوله : ( اشتروا أنفسكم )، أي : أنقذوها ؛ لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك ،
والمشتري راغب ، ولهذا عبر بالاشتراء ، كأنه يقول : اشتروا أنفسكم راغبين .
وفي قوله : ( اشتروا أنفسكم ) من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر ؛ لأن المشتري يكون
راغبا .
قوله : ( لا أغني عنكم من الله شيئا ) هذا هو الشاهد ؛ أي : لا أدفع أو لا أنفع ،
أي : لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله ، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم ؛ لأن
الأمر بيد الله ، ولهذا أمر الله نبيه بذلك ؛ فقال : ( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) الجن/21-22.
قوله : ( شيئا ) نكرة في سياق النفي ، فتعم أي شيء ....
قوله : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) أي : لا أنفعك بشيء دون الله ، ولا أمنعك من
شيء أراده الله لك ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغني عن أحد شيئا
حتى عن أبيه وأمه .
قوله : ( يا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ) أي : اطلبي من مالي ما شئت ؛
فلن أمنعك ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك لماله ، ولكن بالنسبة لحق
الله قال : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) .
فهذا كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقاربه الأقربين : عمه ، وعمته
، وابنته ؛ فما بالك بمن هم أبعد ؟ فعدم إغنائه عنهم شيئا من باب أولى .
فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ويلوذون به ،
ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله : قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق
الحق ؛ لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق؛ إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الإيمان به واتباعه .
أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل ، وخشيته فيما يخاف منه ؛ فهذا شرك بالله ،
وهو مما يبعد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن النجاة من عذاب الله
.
ففي الحديث امتثال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر ربه في قوله تعالى
: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ) الشعراء/214، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام ؛ فدعا
وعم وخصص ، وبين أنه لا ينجي أحدا من عذاب الله بأي وسيلة ، بل الذي ينجي هو
الإيمان به واتباع ما جاء به .
وإذا كان القرب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغني عن القريب شيئا
؛ دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لأن جاه
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينتفع به إلا النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى مختصرا .
" مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " (9/285-288)
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله :
" المعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولا وعملا
واعتقادا ، أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من
أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) – رواه مسلم - وقال : ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم
من الله لا أغني عنكم من الله شيئا )، وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته
فاطمة ، ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (3/98)
والله أعلم .