الحمد لله.
ثانياً:
الإكراه الذي يعذر صاحبه هو الإكراه الملجئ لصاحبه على قول تلك الكلمة .
جاء في " الموسوعة الفقهية " ( 22 / 182 ) :
والإكراه نوعان : نوع يوجب الإلجاء والاضطرار طبعاً ، كالإكراه بالقتل أو القطع أو الضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو ، قلَّ الضرب أو كثر .
وهذا النوع يسمَّى " إكراهاً تامّاً " .
ونوع لا يوجب الإلجاء والاضطرار ، وهو الحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه التلف ، وهذا النوع من الإكراه يسمَّى " إكراها ناقصاً " .
انتهى .
وقد ذكر العلماء شروطاً للإكراه التام الملجئ لقول كلمة الكفر ، وهي :
أ. أن يكون التهديد بما يسبب إتلافاً كالقتل والقطع ، أو أذى لا يحتمله المسلم كالحبس ، والضرب .
ب. أن يكون المكرِه قادراً على تحقيق ما هدَّد به .
ج. أن يكون المكرَه عاجزاً عن الدفاع عن نفسه ، ولو بالهرب أو بالاستغاثة بغيره .
د. أن يغلب على ظن المكرَه وقوع ما هدَّد به المكرِه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 70558 ) ففيه نقل مهم عن ابن قدامة المقدسي في ذلك .
ثالثاً:
هل يجوز للمكرَه أن يصبر ويحتمل الضرر والأذى ولو قُتل في سبيل ذلك ؟
نعم يجوز له ذلك ، وقد فعله بلال بن رباح رضي الله عنه وغيره .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
ويجوز له أن يستقتل ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر ، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : " أحَد ، أحَد " ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلته ، رضي الله عنه وأرضاه .
" تفسير ابن كثير " ( 4 / 606 ) .
رابعاً:
وأيهما أفضل : الصبر والتحمل ولو أدى إلى الموت ، أم الترخص برخصة الشرع وإظهار الكفر باللسان ؟ .
الأقرب أن يُقال : الأفضل هو الصبر والتحمل ، وخاصة لمن كان من أهل العلم أو الفضل أو القدوة للناس ، وهو قول الجمهور .
قال ابن كثير – رحمه الله - :
والأفضل والأولى : أن يثبت المسلم على دينه ، ولو أفضى إلى قتله .
" تفسير ابن كثير " ( 4 / 606 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 35 / 18 ) :
ويتفق الحنفية والمالكية والحنابلة وهو الأصح عند الشافعية : على أن الصبر والثبات على الإيمان مع الإكراه ولو كان بالقتل : أفضل من الإقدام على الكفر ، حتى لو قتل كان مأجوراً ؛ لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ من دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ) – رواه البخاري - .
ومقابل الأصح عند الشافعية أوجه :
أحدها : الأفضل الإتيان بكلمة الكفر صيانة لنفسه .
والثاني : إن كان من العلماء المقتدى بهم : فالأفضل الثبوت .
والثالث : إن كان يتوقع منه الإنكاء – أي : في العدو - والقيام بأحكام الشرع : فالأفضل أن ينطق بها لمصلحة بقائه ، وإلا فالأفضل الثبوت .
انتهى
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الحديث السابق في شأن من كان صبر على القتلة الشنيعة المذكورة ، ممن سبق قبلنا ، ثم قال :
" ومعلوم أن هذا إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء على أولئك ، لصبرهم وثباتهم ، وليكون ذلك عزة للمؤمنين من هذه الأمة " انتهى من "الاستقامة" (2/332) .
خامساً:
قال الأخ السائل " الذي أعرفه أنا أنه لا يجوز للشخص أن يقول إنه غير مسلم مهما كان الأمر ، بل يجب أن يعتز بإسلامه تحت أي ظرف كان " .
قد يظن ظان أن هذا الكلام يؤيده ما ورد في السنة عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنْ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ وَلَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ ) .
رواه ابن ماجه ( 4034 ) وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
لكن الواقع أن هذا الحديث ليس فيه المنع من الأخذ بالرخصة ، بل فيه بيان الأفضل عند الإكراه ، وقد سبق أن قول الجمهور أن الأفضل : الصبر والتحمل ، وأما الرخصة فثابتة في كتاب الله تعالى .
قال أبو الحسن المباركفوري - رحمه الله - :
وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار الموت والقتل دون إظهار الشرك ، وهو وصية بالأفضل والعزيمة ، فإنه يجوز التلفظ بكلمة الكفر والشرك عند الإكراه ؛ لقوله تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) النحل/ 106 .
" مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 2 / 283 ) .
وهذا الجواب في الواقع على سبيل التنزل .
وإلا ، فالواقع أن ما يقوله المكره ، وإن كان في نفسه شركا ؛ فإنه ليس شركا في حقه ، ولا يسمى بمجرد ذلك : مشركا ، بل هو ما زال مؤمنا ، لم يثلم إيمانه شيء ، ولم يقع هو في الشرك ، ولا عبرة بهذا القول الذي أكره عليه ، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان ؛ وحينئذ فهو لم يخالف هذا الحديث ، ولم يشرك بالله .
لكن المشكلة حقا ، هي أن يخاف بعضهم من القتل ، أو الأذى ، أو نحو ذلك من حصول ضرر ، أو فوات نفع ، فيقع في الشرك ، وينشرح صدره بذلك ، فيكون مشركا مرتدا .
والله أعلم