الحمد لله.
ثانيا :
إذا لم تحدد المضاربة بساعات معينة من اليوم ، وهذا هو الأغلب في شأن المضاربة
قديما وحديثا ، فينشغل العامل بمضاربته سائر اليوم بحسب ما يقتضيه الحال ، فإذا عمل
لشخص ، هل أن يضارب لغيره ؟ في ذلك خلاف بين الفقهاء :
1- ذهب المالكية والحنابلة : إلى أنه إن أضر بالأول ، كأن يشغله عن عمله له ، حرم ،
إلا بإذنه .
2- وذهب الحنفية والشافعية إلى الجواز .
ورتب الحنابلة على التحريم : أن العامل يردّ ما ربحه من المضاربة الثانية إلى
المضاربة الأولى.
وقال بعضهم : بل الربح له ، لكن يأثم ، واختار هذا القول جماعة منهم ابن قدامة ،
وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
قال الدردير رحمه الله : " ( ولا )
يجوز ( أخذه ) أي العامل قراضا آخر ( من غيره ) أي غير رب المال ( إن كان ) الثاني
( يشغله ) أي العامل ( عن الأول ) وإلا جاز " انتهى من "الشرح الكبير مع الدسوقي"
(3/ 529).
وقال ابن قدامة رحمه الله : " قال : (
وإذا ضارب لرجل , لم يجز أن يضارب لآخر , إذا كان فيه ضرر على الأول . فإن فعل ,
وربح , رده في شركة الأول ) : وجملة ذلك أنه إذا أخذ من إنسان مضاربة ، ثم أراد أخذ
مضاربة أخرى من آخر , فأذن له الأول , جاز .
وإن لم يأذن له , ولم يكن عليه ضرر , جاز أيضا , بغير خلاف .
وإن كان فيه ضرر على رب المال الأول ولم يأذن , مثل أن يكون المال الثاني كثيرا
يحتاج إلى أن يقطع زمانه , ويشغله عن التجارة في الأول , ويكون المال الأول كثيرا
متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته , لم يجز له ذلك .
وقال أكثر الفقهاء : يجوز ; لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها , فلم يمنع من
المضاربة , كما لو لم يكن فيه ضرر , وكالأجير المشترك .
ولنا , أن المضاربة على الحظ والنماء , فإذا فعل ما يمنعه , لم يكن له , كما لو
أراد التصرف بالعين , وفارق ما لا ضرر فيه .
فعلى هذا إذا فعل وربح , رد الربح في شركة الأول , ويقتسمانه , فلينظر ما ربح في
المضاربة الثانية , فيدفع إلى رب المال منها نصيبه , ويأخذ المضارب نصيبه من الربح
, فيضمه إلى ربح المضاربة الأولى , ويقاسمه لرب المضاربة الأولى ; لأنه استحق حصته
من الربح بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول , فكان بينهما , كربح المال الأول ".
ثم قال رحمه الله مبينا اختياره في المسألة : " والنظر يقتضي أن لا يستحق رب
المضاربة الأولى من رب الثانية شيئا ; لأنه إنما يُستحق بمالٍ أو عمل , وليس له في
المضاربة الثانية مال ولا عمل . وتعدِّي المضارب إنما كان بترك العمل , واشتغاله عن
المال الأول , وهذا لا يوجب عوضا , كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه , أو آجر نفسه
, أو ترك التجارة للعب , أو اشتغال بعلم أو غير ذلك . ولو أوجب عوضا , لأوجب شيئا
مقدرا , لا يختلف ولا يتقدر بربحه في الثاني . والله أعلم " انتهى من "المغني" (5/
30).
وينظر : الفروع (4/ 384)، الموسوعة الفقهية (38/ 68).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
تعليقا على قول صاحب الزاد ": " ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض فإن فعل
رد حصته في الشركة ".
قال : " وإضرار الأول يحصل بأحد أمرين:
الأول: أن ينشغل المضارب بالمضاربة الثانية عن المضاربة الأولى مع اختلاف المال.
الثاني: أن يشتري مالا من جنس ما ضاربه الأول عليه حتى تتخم الأسواق من هذا النوع
من المال فيرخص، فكل هذا ضرر.
مثال ذلك: أعطيت رجلا عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز؛ لأنني أعرف أن الأرز عليه
طلب فأخذها، ثم ذهب إلى آخر وأخذ منه عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز، فهل هذا
التصرف يضر بالأول أو لا؟
الجواب: نعم يضره؛ لأن السوق إذا امتلأ بالأرز فسوف يرخص السعر، فيتحقق الضرر
بالمضارب الأول.
أما إذا أخذ عشرة آلاف ريال مضاربة من شخص آخر ليشتري بها سيارات ، ومعلوم أن
السيارات لا تؤثر على الأرز، لكن ربما ينشغل هذا المضارب بالاتجار بالسيارات، لا
سيما إذا علم أن ربحها أكثر، فيترتب على ذلك أن يترك المضارب الأول مع أرزه، ويقول:
السيارات أكسب، ومعلوم أن هذا التصرف يضره.
وقوله: ولم يرض فإن رضي فلا بأس؛ لأن الحق له ...
قال المؤلف: فإن فعل رد حصته في الشركة أي: ضارب العامل بمال لآخر، وحصل له ربح
في المضاربة الثانية ، فإنه يرد حصته من هذا الربح في الشركة الأولى، فكأنه ربح من
المال الأول؛ لأن وقت المضارب مستحق لصاحب المال الأول...
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إنه لا يستحق من ربح المضاربة الثانية شيئا؛ لأنها
ليست من ماله، وإنما هي من كسب العامل، والعامل أخطأ في كونه يضارب بمال الآخر مع
الإضرار بالأول، لكن ما الذي يحل هذا الربح لصاحب المال الأول؟! ففي الواقع أنه لا
يحل، ولهذا كان هذا القول هو الراجح، أنه لا يضيف ربحه من المضاربة الثانية إلى ربح
المضاربة الأولى، بل هو له ، لكنه آثم.
فإن قال قائل: لو فرض أنه فوت على المضارب الأول، أي: على رب المال أرباحا، فهنا
ربما نضمنه، وقد لا نضمنه أيضا، لكن الكلام على أن الربح من المضاربة الثانية، لا
يرد في ربح المضاربة الأولى على القول الراجح، أما المذهب فكما سبق بيانه " انتهى
من "الشرح الممتع" (9/ 423) مختصرا .
وبناء على ما سبق : إذا لم يكن لعملك
ساعات محددة في اليوم ، وكان انشغالك بالمضاربة مع آخرين لم يضرّ برب المال الأول ،
فلا حرج عليك ، فإن أضرّ به كان عملك هذا حراما ، لكن ما جاء من ربح منه فهو لك على
الراجح .
وننبه هنا على أمور مهمة تتعلق بهذه المسألة :
الأول : أن الجواب السابق هو فيما إذا كنت قد قمت بهذه الأعمال بصفتك الشخصية ، أما لو قمت بها باسم الشركة – وهي مملوكة لك ولصاحبك – فإن لصاحبك نصيباً من الأرباح ، يُرجع فيه تقديره إلى أهل الخبرة ؛ لأن الاسم التجاري والرخصة التجارية لها قيمة واعتبار مادي ، ولكما أن تتصالحا على شيء من الربح له .
الثاني : أن عامل المضاربة إن فرط أو خالف ما اشترط عليه من العمل ، وحدثت خسارة ، ضمن لتفريطه ، ويُرجع إلى أهل الخبرة في تحديد التفريط والضمان الذي يقابله .
الثالث : أنه لا يحق لصاحب المال أن
يضيق على المضارب بما يضر بمضاربته وعمله ، أو يؤدي إلى الخسارة ؛ وقد ذكر الشافعية
في شروط صحة المضاربة : " أَن لَا يكون الْعَامِل مضيقاً عَلَيْهِ ثمَّ التَّضْيِيق
تَارَة يكون بِمَنْع التَّصَرُّف مُطلقًا بِأَن يَقُول لَا تشتر شَيْئا حَتَّى
تشاورني وَكَذَلِكَ لَا تبع إِلَّا بمشورتي لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى فَوَات
مَقْصُود العقد فقد يجد شَيْئا يربح وَلَو رَاجعه لفات وَكَذَا البيع فَيُؤَدِّي
إِلَى فَوَات مَقْصُود الْقَرَاض وَهُوَ الرِّبْح " انتهى من "كفاية الأخيار" ،
للحصني (341) .
وصرحوا أيضا بوجوب تسليم رأس المال إلى المضارب .
قال النووي : " الشرط الرابع: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إِلَى
الْعَامِلِ، وَيَسْتَقِلُّ بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. فَلَوْ شَرَطَ
الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْكِيسُ فِي يَدِهِ وَيُوَفِّيَ مِنْهُ الثَّمَنَ إِذَا
اشْتَرَى الْعَامِلُ شَيْئًا، أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُرَاجِعُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ
، أَوْ مُشْرِفًا نَصَبَّهُ ، فَسَدَ الْقِرَاضُ" اهـ من "روضة الطالبين" (5/119) ،
ولو تم الالتزام بذلك ، لتفاديتم كثيرا من المشكلات التي مرت بكم .
والله أعلم .