الحمد لله.
أولا :
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والشوق إليه ، من أجلّ المطالب النبيلة وأنبل المقاصد الجليلة ، ولا شك أن ذلك من الإيمان .
روى البخاري (15) ومسلم (44) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَالَ الْقُرْطُبِيّ : كُلّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يَخْلُو عَنْ وِجْدَان شَيْء مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّة الرَّاجِحَة ، غَيْر أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ . فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَة بِالْحَظِّ الْأَوْفَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَدْنَى ، كَمَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الشَّهَوَات مَحْجُوبًا فِي الْغَفَلَات فِي أَكْثَر الْأَوْقَات ، لَكِنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَته ، بِحَيْثُ يُؤْثِرهَا عَلَى أَهْله وَوَلَده وَمَاله وَوَالِده ، وَيَبْذُل نَفْسه فِي الْأُمُور الْخَطِيرَة ، وَيَجِد مَخْبَر ذَلِكَ مِنْ نَفْسه وِجْدَانًا لَا تَرَدُّد فِيهِ . غَيْر أَنَّ ذَلِكَ سَرِيع الزَّوَال بِتَوَالِي الْغَفَلَات " انتهى .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال المشتاقين إليه بعد وفاته ، ممن لم يروه ولم يدركوا زمانه صلى الله عليه وسلم . فروى مسلم (2832) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ ) .
وروى الحاكم (6991) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله ) حسنه الألباني في "الصحيحة" (1676) .
ثانيا :
إذا كان مراد القائل لذلك بصيغة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أن يستحضر شخصه في قلبه ، كما يستحضر الحبيب حبيبه ، وهو في مكان بعيد عنه ، ويخاطبه كأنه يراه – دون أن يطلب منه شيئاً – فهذا لا حرج فيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وقوله : " يا محمد يا نبي الله " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادَى في القلب ، فيخاطب الشهود بالقلب : كما يقول المصلي : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا ، يخاطب من يتصوره في نفسه ، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/319) .
وإن كان يقصد أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل خطابٍ ممن خاطبه ، سواء كان قريبا أو بعيدا : فهذا باطل ، ليس له أصل في الشرع ، ولم يفعله أحد من سلف الأمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء في حياته ، لمن كان بعيدا عنه ، أو بعد وفاته مطلقا .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ثم إن الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقصدون بكاف الخطاب – يعني في السلام عليه في الصلاة - مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم في أماكن بعيدة عنه صلى الله عليه وسلم ، فهم في مكة والطائف وبادية الجزيرة وفي المدينة ، فلم يكن يسمعهم ، بل الذين معه في مسجده لم يكونوا يقصدون إسماعه ذلك ، وأنهم يسلمون عليه في الصلاة ، كما يسلمون عليه عند الملاقاة " انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (13/166) .
ومثل ذلك القول ، بصيغة الخطاب ، إنما يكون أحيانا عند غلبة الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو استحضار أمر من سيرته وشمائله ، كما كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبكون شوقا لخبر السماء ، إذا حضر قلوبهم الوحشة بانقطاعه .
روى مسلم في صحيحه (2641) عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا . فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ !! فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟! مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ !! فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا !!
وإذا كانت هذه العبارة قد يسيء بعض الناس فهمها فينبغي أن لا تذكر أمامه ، ويذكر من الألفاظ ما هو أبعد عن اللبس في فهم السامع ، أو الخطأ في مراد القائل .
والله أعلم .