الحمد لله.
الحديث الرابع :
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ملعون من سأل بوجه الله عز وجل ، وملعون مَن سُئل بوجه الله عز وجل ثم منع سائله
ما لم يسأل هجرا )
رواه الروياني في " المسند " (1/327 ، رقم 495) والطبراني في " الدعاء " (ص/581)،
وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (26/58) جميعهم من طريق عبد الله بن عياش بن عباس
القتباني ، عن أبيه ، أن أبا بردة بن أبي موسى حدث يزيد بن المهلب ، أن اباه حدثه ،
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ...فذكره.
وهذا إسناد ضعيف أيضا بسبب عبد الله بن عياش ، وقد سبق نقل تضعيف أبي حاتم وأبي
داود والنسائي له .
ثانيا :
قواعد الشرع وأدلته الثابتة المجمع عليها تقرر أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب
نفس منه ، وأن كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، والله عز وجل يقول :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) النساء/29.
لذلك ذهب عامة أهل العلم إلى تقييد الأحاديث السابقة - التي تذم مَن سُئل بالله ولم
يُجِب - بقواعد الشريعة المجمع عليها ، وجمعوا بين النصوص جميعا على ضوء قواعد أصول
الفقه ومقاصد الشريعة على أوجه عدة :
الوجه الأول : أن يقال بكراهة عدم إعطاء من سأل بالله ، وليس بالحرمة ، وتفسير
الأحاديث السابقة بحملها على قصد الذم والتنفير ، وليس التحريم .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" يستحب إجابة من سأل بالله " انتهى.
" المغني " (9/423)
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله :
" يكره للإنسان أن يَسأل بوجه الله غير الجنة ، وأن يمنع مَن يسأل بالله وتشفَّع به
" انتهى من " مغني المحتاج " (3/122)
وجاء في " الفتاوى الهندية " الحنفية (5/318) :
" ولو قال لغيره : بالله أن تفعل كذا : لا يجب على ذلك الغير أن يأتي بذلك الفعل
شرعا , وإن كان الأولى أن يأتي به " انتهى.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي :
" بعض الناس يحرجوننا بكلمة أسألك بالله أن تعطيني كذا ، أو أسألك بالله أن تبيعني
كذا ، أو أسألك بالله أن تخبرني بكذا ، وفي بعض المرات نرفض تلبية طلبهم عندما لا
يكون الطلب في محله ، هل الرفض رغم كلمة أسألك بالله يعرضنا للإثم ، أم أنه ليس
علينا شيءٌ في ذلك، نرجو الإفادة جزاكم الله خيراً ؟
فأجاب :
إذا كان السائل لا حق له بهذا الشيء فلا حرج فيه إن شاء الله ، فإذا قال أسألك
بالله أن تعطيني دارك أو تعطني سيارتك أو تعطني كذا وكذا من المال ، فهذا لا حق له
.
أما إذا كان يسأل حقاً له أسألك بالله أن توصل إلي ، أسألك بالله أن تعطيني من
الزكاة - وهو من أهلها - تعطيه ما تيسر ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال : (
من سأل بالله فأعطوه )، فإذا كان له حق كالفقير يسأل من الزكاة ، أو حقاً عليك له
دين ، يقول : أسألك بالله أن ترد لي ديني ، أسألك بالله أن تنصرني على هذا الظالم ،
وأنت تستطيع أن تنصره على الظالم ، أسألك بالله أن تعينني على كذا وكذا من إزالة
المنكر : فلا بأس بهذا ، هذا أمرٌ مطلوب عليك أن تعينه وأن تستجيب له ، لأنه سأل
حقاً ، والرسول - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من سأل بالله فأعطوه ) ، أما أن يسأل
شيئاً لا حق له فيه ، أو يسأل معصية : فهذا لا حق له " انتهى.
نقلا عن موقع سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله :
http://www.binbaz.org.sa/mat/9686
الوجه الثاني : أن يقال بأن السائل المضطر – الذي وقع
في حال الضرورة – هو الذي تجب إجابته إذا سأل بالله ، أما غيره فتستحب ولا تجب .
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" لم يأخذ بذلك أئمتنا – يعني بالقول بتحريم عدم إعطاء من سأل بالله - فجعلوا كلا
من الأمرين مكروها ، ولم يقولوا بالحرمة ، فضلا عن الكبيرة .
ويمكن حمل الحديث في المنع على ما إذا كان لمضطر ، وتكون حكمة التنصيص عليه أن منعه
مع اضطراره وسؤاله بالله أقبح وأفظع ، وحمله في السؤال على ما إذا ألح وكرر السؤال
بوجه الله حتى أضجر المسئول وأضره ، وحينئذ فاللعن على هذين ، وكون كل منهما كبيرة
ظاهر ، ولا يمتنع من ذلك أصحابنا .
وبهذا اتضح الجمع بين كلام أئمتنا وتلك الأحاديث التي قدمناها " انتهى باختصار.
" الزواجر عن اقتراف الكبائر " (1/317-318)
الوجه الثالث : أن يقال : إن الحديث الأول : ( فأعطوه
) الأمر فيه للندب ، والحديث الثاني ( يسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطي بِهِ ) ضبطه
الصحيح هو ( يَسأَلُ بالله ولا يُعطِي به ) فالمذموم هو الذي جمع بين الأمرين :
يسأل بالله الناس ، ولكنه إذا سئل بالله لا يعطي به ، ولا شك أن هذا الفعل مذموم قد
يصل إلى درجة التحريم .
يقول الشيخ السندي رحمه الله :
" ( يسأل بالله ) على بناء الفاعل ، أي : الذي يجمع بين القبيحين : أحدهما السؤال
بالله ، والثاني عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى ، فما يراعي حرمة اسمه تعالى في
الوقتين جميعا ، وأما جعله مبنيا للمفعول فبعيد ، إذ لا صنع للعبد في أن يسأله
السائل بالله ، فلا وجه للجمع بينه وبين ترك الإعطاء في هذا المحل " انتهى.
" حاشية السندي على النسائي " (5/83)
بل يحتمل الحديث أيضا أن يُضبط على الوجه الآتي : ( يَسألُ بالله ولا يُعطَى به )
بمعنى أن المذموم هو الذي يسأل بالله تعالى ، فالسؤال بالله مذموم ، ثم رغم وقوعه
في هذا المذموم لا ينال به شيئا ، فلا يعطيه الناس بسؤاله ، فيعرض نفسه للمذلة ،
ويعرِّض اسم الله تعالى لعدم الإجابة .
وقد ذكر هذا الاحتمال المباركفوري رحمه الله فقال :
" ( يسأل ) على بناء المعلوم ، وقوله : ( لا يعطى ) على بناء المفعول " انتهى.
" تحفة الأحوذي " (5/240) .
والله أعلم .