لقد زرت إحدى المدن الكبرى في إحدى الدول الإسلامية لغرض الدراسة ، فوجدت المسلمين فيها على حال لا يرضي الله ولا رسوله من تنافر لأهل المسجد الواحد ، وعدم التفاهم والكلام ، بل والسلام للأسف الشديد ، وتركت حلقات التحفيظ والعلم ، ومُنع الجادون في إلقاء الدروس العلمية من إلقائها بسبب هذه الفتن الدائرة في الساحة الدعوية ، وأنا سأمكث إن شاء الله تعالى مدة ثلاث سنوات ، ما هي الخطوات التي تنصحني بها في ظل هذا الوضع المؤسف ؟
الحمد لله.
أولاً:
إننا لنأسف على ما يحدث في طول العالم وعرضه من الاختلاف والتفرق بين المسلمين ،
ونأسف أشد الأسف على تفرق أهل السنة والجماعة .
وفي ديننا من مظاهر الاجتماع الشيء الكثير ، كالاجتماع على معبود واحد ، ونبي واحد
، وقرآن واحد ، وقبلة واحدة ، وهذا أدعى للاجتماع على منهج واحد يعتمد على الكتاب
والسنَّة بفهم خير القرون الذين لا يُختلف على دينهم وصحة منهجهم ، وبدلاً من هذا
الاجتماع رأينا التفرق والتحزب ، وكل واحد رضي لنفسه بأن يكون تابعاً لحزب أو جماعة
أو شيخ ، ولم يكتف هؤلاء بالتكتل والتحزب حتى أضافوا إلى ذلك البغض والكراهية
للأطراف الأخرى ، فحصل التفرق والتشتت ، وأُعجب كل واحد برأيه ومنهجه ، وحارب
المناهج الأخرى ، ولو كان ذلك على حساب الدعوة للإسلام ، وإظهار الصورة الحسنة
لأحكامه وتشريعاته .
ولسنا هنا بصدد ترجيح طائفة على أخرى ، ولا منهج على آخر ؛ لأن ذلك لن يسهم في
الاجتماع بل بالتفرق ، ولسنا نميع ديننا ونقول إننا نريد اجتماعاً على أي شيء حتى
لو كان خطأ ، بل نرى أن الصواب في الاعتقاد والمنهج والسلوك هو ما كان عليه خير
القرون ، ومن تبعهم على دينهم وفهمهم ، ولذا فإننا نخاطب العقلاء من أهل السنة
والجماعة بأن يرضوا لأنفسهم أن يكونوا على منهج العلماء الربانيين الراسخين في
العلم في هذا الزمان - إذا خفي عليهم معرفة ما كان عليه سلف الأمة من الاعتقاد
والمنهج والفهم للدين - من أمثال الشيخين عبد العزيز بن باز والعثيمين رحمهما الله
، وإخوانهما من أهل العلم ، فهؤلاء جميعاً قدموا خدمات جليلة للإسلام ، ونفعوا
المسلمين في عقيدتهم ومنهجهم ، ولم يكونوا أفراداً في جماعات وأحزاب ، ولم يطلقوا
ألسنتهم بالطعن والشتم للعاملين للإسلام ، ولم يفرقوا الصف المسلم ، بل مدوا أيديهم
لكل المسلمين العاملين للإسلام ، مع النصح والتوجيه والإرشاد للمخالف منهم في شيء
من اعتقاده ومنهجه لأهل السنة والجماعة ، وهذا بخلاف غيرهم ممن لم ترسخ قدمه في
العلم ، ولم يؤت حكمة ، فراح يفرق الصف المجتمِع ، ويشتت الشباب المؤتلِف ، ولك أن
تضع لنفسك قاعدة في معرفة المحق من المبطل ، وهي " مِن ثمارهم تعرفهم " ! فانظر
لثمار أولئك العلماء الربانيين ، ولثمار غيرهم ممن خالفهم وادعى أنه على طريقهم ،
لتعرف المصيب من المخطئ .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
نشاهد في هذا الوقت كثرة الحديث عن الجماعات الإسلامية التي تدعو إلى الله عز وجل ،
فأي هذه الجماعات نتبعها ؟ وما موقف المسلم من اختلاف الجماعات ؟ .
فأجاب :
موقفي من هذا : أنه أمر مؤلم ، ومؤسف ، ويُخشى أن هذه النهضة والصحوة الإسلامية
تعود فتُهدم ، وتتحطم ، وتشل ؛ لأن الناس إذا تفرقوا كانوا كما قال الله عز وجل : (
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) ، إذا تفرقوا وتنازعوا : فشلوا أو خسروا ، وذهب
ريحُهم ، ولن يكون لهم وزن .
أعداء الإسلام - ممن يتسمون ظاهراً ، أو ممن هم أعداء له ظاهراً ، أو ممن هم أعداء
له ظاهراً وباطناً - يفرحون بهذه التفرقة ، وهم يوقدون نارها ، ويأتون إلى هذا
ويقولون : هذا كذا ، وهذا فيه كذا ، يلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة
الدعاء إلى الله عز وجل .
فالواجب علينا أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله ، ولرسوله ، ولدينه ، وأن نكون أمة
واحدة ، وأن يجتمع بعضنا إلى بعض ، ويستفيد بعضنا من بعض ، وأن نجعل أنفسنا كداعٍ
واحدٍ ، وطريقُ ذلك : أن يجتمع في كل بلد الزعماء الذين لهم كلمة في إخوانهم ،
ويتدارسون الوضع ، ويجتمعون على خطة تكون جامعة للجميع ، حتى وإن اختلف منهاج
الدعوة إلى الله عز وجل فلا يهم ، المهم أن نكون إخوة متآلفين على الحق ، متحابين .
وأما قوله : أي هذه الطوائف أفضل ؟ فأنا إذا قلت إن الطائفة الفلانية أفضل : فهذا
إقرار لهذا التفرق ، وأنا لا أقره ، وأرى أن الواجب أن ننظر في أمرنا نظرة صدق
وإخلاص لله عز وجل ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم ، وأن نكون
يداً واحدة ، والحق والحمد لله بيِّن ، الحق لا يخفي إلا على أحد رجلين : إما معرض
، وإما مستكبر ، أما مَن أقبل على الحق بإذعان وانقياد : فإنه لا شك سيوفق له .
" الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات" (133-134) .
ثانياً:
الذي ننصحك به أخي الفاضل أمور ، منها :
1. أن لا تنتسب لأحدٍ من تلك الفرق والجماعات ، فإنك إن فعلت ذلك : حُسبتَ عليها ،
وخسرتَ غيرها ، بل ابق على صلة حسَنة بالجميع ، ناصحاً ، ومفيداً ، ومستفيداً .
2. أن تنصح لمن تراه مخطئاً ، فإن سمعت غيبة ، أو رأيت تحريشاً : فعليك بالنصح
بالتي هي أحسن للتي هي أقوم .
سئل علماء اللجنة الدائمة عن الجماعات العاملة للإسلام فقالوا :
كلٌّ مِن هذه الفرَق فيها حق وباطل ، وخطأ وصواب ، وبعضها أقرب إلى الحق والصواب ،
وأكثر خيراً وأعمُّ نفعاً من بعض ، فعليك أن تتعاون مع كلٍّ منها على ما معها من
الحق ، وتنصح لها فيما تراه خطأ ، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 238 ، 239 ) .
3. الاشتغال بطلب العلم ، وصرف وقتك فيما ينفعك من الطاعات والأمور المباحة .
وطلب العلم من أجل العبادات ، ومن أفضل ما يصرف فيه المسلم وقته ، والعلم إن أعطيته
كلَّك أعطاك بعضَه ، فلا تضيِّع وقتك بالقيل والقال ، ولا تصرف طاقتك وجهدك لما ليس
فيه نفع لك في دينك ودنياك ، فالوقت أنفس ما يُعنى بحفظه ، وما ذهب منه فلن يرجع .
4. الاشتغال بالدعوة والتعليم .
وهي عبادات عظيمة ، أوجبها الله تعالى على من رزقه الله علماً ، وهما زكاة علم
المسلم ، يشكر نعمة الله تعالى عليه بأن اصطفاه للقيام بوظيفة المرسلين ، ويرفع
الجهل عن الناس ، ويدعوهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة .
5. أن تشتغل بعيوب نفسك فتصلحها ، وتترك عنك تتبع عيوب الناس .
وفي الاشتغال بعيوب مفاسد كثيرة ، منها :
أ. تضييع الوقت بما يضر .
ب. وتزكية النفس بما ليس فيها .
ج. والانشغال عن عيوب نفسك .
د. وتضييع الحسنات وإهداؤها للمتكلَّم فيه .
6. أن تجعل موالاتك للمؤمنين ، ومعاداتك للكافرين ، ولعمل الفاسقين والمبتدعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وليس لأحدٍ أن ينصِّب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ، ويوالي ويعادي عليها غير النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا ينصِّب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله
ورسوله ، وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا مِن فعل أهل البدع الذين ينصِّبون لهم
شخصاً ، أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام ، أو تلك
النسبة ، ويعادون .
" مجموع الفتاوى " ( 20 / 164 ) .
7. الابتعاد عن تصنيف الدعاة والعاملين للإسلام وتجريحهم ؛ فإنها صنعة المفاليس .
قال الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله - :
وإذا علمتَ فشوّ ظاهرة التصنيف الغلابة ، وأن إطفاءها واجب : فاعلم أن المحترفين
لها سلكوا لتنفيذها طرقاً منها :
أنك ترى الجراح القصاب كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم ( ذبيحاً ) فرماه
بقذيفة من هذه الألقاب المرَّة ، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية ، ثم يرميه في
الطريق ويقول : أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان ! وترى دأبه التربص
والترصد : عين للترقب ، وأذن للتجسس ، كل هذا للتحريش ، وإشعال نار الفتن بالصالحين
، وغيرهم ، وترى هذا ( الرمز البغيض ) مهموماً بمحاصرة الدعاة بسلسلة طويلٌ ذرْعها
، رديءٌ متْنها ، تجرُّ أثقالاً من الألقاب المنفِّرة ، والتهم الفاجرة ، ليسلكهم
في قطار أهل الأهواء ، وضُلاَّل أهل القبلة ، وجعْلهم وقود بلبلة ، وحطب اضطراب !
وبالجملة فهذا ( القطيع ) هم أسوأ غزاة الأعراض بالأمراض ، والعضِّ بالباطل في
غوارب العباد ، والتفكه بها ، فهم مقرَّنون بأصفاد : الغل ، والبغضاء ، والحسد ،
والغيبة ، والنميمة ، والكذب ، والبهت ، والإفك ، والهمز ، واللمز ، جميعها في
نفاذٍ واحد .
إنهم بحق : ( رمز الإرادة السيئة ) يرتعون بها بشهوة جامحة ، نعوذ بالله من حالهم ،
لا رُعُوا .
" تصنيف الناس بين الظن واليقين " ( ص 22 ، 23 ) .
وقال – حفظه الله - :
وفي عصرنا الحاضر يأخذ الدور في هذه الفتنة دورته في مسالخ من المنتسبين إلى
السنَّة ، متلفعين بمرطٍ ( ينسبونه إلى السلفية ) - ظلماً لها - فنصبوا أنفسهم لرمي
الدعاة بالتهم الفاجرة ، المبنية على الحجج الواهية ، واشتغلوا بضلالة التصنيف ...
وصدق الأئمة الهداة : إن رمي العلماء بالنقائص ، وتصنيفهم البائس من البينات : فتح
باب زندقة مكشوفة .
ويا لله كم صدت هذه الفتنة العمياء عن الوقوف في وجه المد الإلحادي ، والمد الطرقي
، والعبث الأخلاقي ، وإعطاء الفرصة لهم في استباحة أخلاقيات العباد ، وتأجيج سبل
الفساد والإفساد ، إلى آخر ما تجره هذه المكيدة المهينة من جنايات على الدين ، وعلى
علمائه ، وعلى الأمة ، وعلى ولاة أمرها ، وبالجملة فهي فتنة مضلة ، والقائم بها (
مفتون ) و ( منشق ) عن جماعة المسلمين .
" تصنيف الناس " ( ص 28 ، 29 ) .
ونرجو أن تصيب هذه النصائح والوصايا منك قبولاً لها ،
وعملاً بها ، وأن يرزقك الله بركة السير على النهج السوي ، والصراط المستقيم .
والله الموفق