الحمد لله.
ثانياً:
لعل نفسك قد اطمأنت ، وعينك قد قرت بما بشر الله به عباده ، وما أعده لهم من
المنازل ، فأبشر ـ أيها الأخ الكريم ـ فليست الدرجات العلى في الجنة للعلماء
العاملين بعلمهم فحسب ، بل يمكن أن يكون غيرهم في منزلتهم أو أعظم منهم منزلة ،
فهناك الصدِّيقون ، والمجاهدون ، والمنفقون ، والحافظون لكتاب الله ، وهناك الساعون
على الأرامل والمساكين ، وغيرهم كثير ، ويمكن أن ترى تفصيل ذلك في جوابي السؤالين (
27075 ) و (
127295 ) .
وقد قال تعالى :( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم
مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) آل عمران/ 133 ، 136 .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
"وفي الجملة : فخير الناس أنفعهم للناس وأصبرهم على أذى الناس ، كما وصف الله
المتقين بذلك في قوله تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ )" آل عمران/ 134 .
انتهى من" لطائف المعارف " ( ص 231 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ) .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ؛ فَهَلْ
يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا ؟
قَالَ : ( نَعَمْ ؛ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ) . رواه البخاري (1897) ومسلم
(1027) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمُرَاد مَا يُتَطَوَّع بِهِ مِنْ الْأَعْمَال
الْمَذْكُورَة لَا وَاجِبَاتهَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ الْعَمَل
بِالْوَاجِبَاتِ كُلّهَا , بِخِلَافِ التَّطَوُّعَات فَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ
الْعَمَل بِجَمِيعِ أَنْوَاع التَّطَوُّعَات , ثُمَّ مَنْ يَجْتَمِع لَهُ ذَلِكَ
إِنَّمَا يُدْعَى مِنْ جَمِيع الْأَبْوَاب عَلَى سَبِيل التَّكْرِيم لَهُ ,
وَإِلَّا فَدُخُوله إِنَّمَا يَكُون مِنْ بَاب وَاحِد , وَلَعَلَّهُ بَاب الْعَمَل
الَّذِي يَكُون أَغْلَب عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " . انتهى .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ
لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا )
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَنْ هِيَ ؟
قَالَ : ( لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَصَلَّى لِلَّهِ
بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) .
رواه أحمد (1340) والترمذي (1984) وحسنه الألباني .
فتبين بذلك أن دخول الجنة ، ونزول منازلها العليا ، ليس حكرا على العلماء وحدهم ؛
فهذا لم يقل به أحد ، مع الاتفاق على عظيم منزلة العلم وأهله ، وإنما على العبد أن
ينظر في الباب الذي فتحه الله له من العبادة ، ويسره له ، وهيأ له أسبابه ، فليلزمه
، وليعتن به ، وكل ميسر لما خلق له .
والله أعلم