الحمد لله.
على أنه مما يجب الانتباه
إليه ، والاهتمام به هنا : أن صاحب الصغيرة إذا أصر على معصيته ، ولم يُتبِعها
بالتوبة والإنابة ، انقلبت في حقه كبيرة ، أو أوشكت ، كما قال ابن عباس رضي الله
عنهما : لا صغيرة مع الإصرار ؛ بل ربما كانت أضر على صاحبها من كبيرة ألم بها ، ثم
لم يعد إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ
مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ
عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ
أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا
يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ
أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لَا إصْرَارَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ: أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلَا يُصِرَّ
عَلَى صَغِيرَةٍ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/293) .
ثالثا :
وقع الاختلاف بعد ذلك بين العلماء في توجيه حديث أنس بن مالك وأبي أمامة الذي قال
فيه الرجل : ( أصبت حدا )، فانقسموا فيه إلى مسلكين :
المسلك الأول : تأويل الحديث ، وعدم التسليم بأن مقصد الرجل هو الوقوع في الكبيرة ،
والقرينة الباعثة على هذا التأويل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الرجل
بتكفير ذنبه بسبب صلاته مع جماعة المسلمين ، والكبائر لا تكفرها الصلاة ، وإنما
تكفرها التوبة أو الحد ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم : ( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ ،
وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ
الْكَبَائِرَ ) رواه مسلم (233)، وكما سبق نقل الإجماع على ذلك في كلام الإمام
النووي رحمه الله .
ولذلك قال بعض أصحاب هذا المسلك في تفسير الحديث :
أن الرجل يريد أنه وقع في معصية من المعاصي تستحق التعزير ، والتعزير يسمَّى حدا
بالمعنى العام ، وليس المقصود أنه وقع في فاحشة الزنا التي تستوجب الجلد أو الرجم .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" هذا الحد معناه : معصية من المعاصي الموجبة للتعزير ، وهى هنا من الصغائر ؛ لأنها
كفرتها الصلاة ، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة...هذا
هو الصحيح في تفسير هذا الحديث " انتهى باختصار من " شرح مسلم " (17/81)
ونقل الحافظ ابن حجر تأويلات أخرى لأصحاب هذا المسلك في تفسير الحديث ، فقال رحمه
الله :
" لعله ظن ما ليس بحد حدًّا ، أو استعظم الذي فعله فظن أنه يجب فيه الحد " انتهى من
" فتح الباري " (12/134)
وقال أيضا :
" لعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حد ، فأطلق على ما فعل حدا " انتهى من " فتح
الباري " (8/356)
المسلك الثاني : حمل الحديث على ظاهره ، وأن هذا الصحابي قد وقع في كبيرة الزنا
التي تستوجب الحد الشرعي .
وقد خاض أصحاب هذا الاتجاه في تعليل ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على
من أقر به ، وهو خوض لا يعنينا كثيرا في هذا الجواب المختصر ، ومن أراد التوسع فيه
فليرجع إلى الكلام عليه في أبواب العقوبات من كتب الفقه وشروح الحديث .
والأهم – في خصوص جواب السؤال - هو كيف أجاب أصحاب هذا القول على حجة من قال بتأويل
الحديث ، وكيف كانت صلاة الجماعة سببا في تكفير كبيرة الزنا .
فالذي وقفنا عليه في هذا الشأن أن بعضهم جعل الحديث خاصا بذلك الرجل ، وأن تكفير
كبيرة الزنا بالصلاة فضلٌ خاصٌّ به ، أطلع الله عز وجل نبيه عليه ، ولا يقاس عليه
غيره .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" يحتمل أن يختص ذلك بالمذكور ؛ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر
عنه حده بصلاته ، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي ، فلا يستمر الحكم في غيره إلا
في من علم أنه مثله في ذلك ، وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله
عليه وسلم " انتهى من " فتح الباري " (12/134)
وثمة قول آخر لا يسلِّم بالإجماع الذي نقلناه سابقا عن الإمام النووي رحمه الله ،
بل يقولون إن الحسنات والأعمال الصالحة كالصلاة والصيام والحج يمكن أن تكفر كبائر
الذنوب أحيانا ، ولكن ليس ذلك بالأمر اللازم المطرد ، وهذا الموضوع يقرره شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه ، وينتصر له بأدلة كثيرة ،
وذهب إليه كثير من العلماء من شراح الأحاديث وغيرهم ، ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه
الله حيث يقول : " وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر كمن كثر تطوعه مثلا بحيث صلح لأن
يكفر عددا كثيرا من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلا أو شيء يسير وعليه
كبيرة واحدة مثلا فإنها تكفر عنه ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا " انتهى من
" فتح الباري " (12/134)، وينظر : " مجموع فتاوى ابن تيمية " (7/489-491)، " فتح
الباري " لابن رجب (4/206)، "فتح الباري" لابن حجر (8/357)
وبناء على هذا القول يمكن أن يوجه حديث أنس بن مالك وأبي أمامة رضي الله عنهما بأن
الله عز وجل أطلع نبيه على أن هذا الرجل قد غفر الله له كبيرته بسبب صلاته ، وذلك
لا يعني أن كل الكبائر من أي مرتكب لها تكفرها صلاتهم مع جماعة المسلمين ، وإنما
يمكن أن يقع ذلك لبعض العاصين غير هذا الرجل الوارد في الحديث .
وفي كلام ابن القيم رحمه الله ما يشير إلى أن الرجل إنما غفر الله له بسبب توبته
الصادقة ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاته مع جماعة المسلمين كانت سبب
مغفرة ذنبه لأنه صدق التوبة مع الله ، وليس بسبب الصلاة المجردة .
قال ابن القيم رحمه الله :
" قالت طائفة : بل غفر الله له بتوبته ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وعلى هذا
فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى كما تسقط عن المحارب ،
وهذا هو الصواب " انتهى من " إعلام الموقعين " (4/281-282)
وأيا كان الأصوب من هذين
المسلكين للعلماء في توجيه الحديث ، فإن الخطر كل الخطر يكمن في حال أولئك الذين
يسرفون في المعاصي ، ويصرون على الذنوب ، ويقتحمون كل خطيئة ، ثم يقولون : سيغفر
الله لنا بحسناتنا !
وما أدراهم أن الله تقبل منهم حسناتهم ! وما أدراهم أن الله لا يحبط تلك الحسنات
بتلك السيئات! بل وما أدراهم أن الله عز وجل سيختم لهم بخاتمة حسنة إذا هم أصروا
على ذنوبهم بدعوى أنها صغائر ! وقد قال أهل العلم : إن الإصرار على الصغائر يصيرها
كبائر .
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبة له :
" أيها الناس من ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ اللَهَ وليتبْ ، فإن عاَدَ فليستغفرِ
اللَّهَ وليتبْ ، فإن عاد فليستغفر الله وليتب ، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق
الرجال ، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها .
نقله الحافظ ابن رجب ثم قال :
" ومعنى هذا : أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب..ولكن الله جعل للعبد
مخرجا مما وقع فيه من الذنوب بالتوبة والاستعفار ، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب ،
وإن أصر على الذنوب ، هلك ، وفي "المسند" من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى
الله عليه وسلم - قال: ( ويل للمصرين الذي يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ) " انتهى
من " تفسير ابن رجب الحنبلي " (1/562-563)
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة ":
" ليس معنى هذه المكفرات وما في معناها أن يُقدِمَ الإنسان على المعاصي والشهوات ،
ويصرَّ عليها ، بحجة أنه يعمل هذه الحسنات فتكفرها ، فهذا لا يقوله أحد ، ولا تؤدي
إليه هذه النصوص ، وإنما المسلم مطالب بأصل الشرع بعمل الأوامر واجتناب النواهي ،
وإذا قارف معصية فعليه المبادرة إلى التوبة النصوح بالإقلاع عنها ، والتأسف على ما
وقع منه ، وعقد العزم بعدم العودة إليها ، فهذه مع ما يحصل للمسلم من الخير مثل
الوضوء والصلاة وفعل الحسنات - تكاثر السيئات وتكفرها إذا اجتنب الكبائر ؛ لقول
الله سبحانه : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) انتهى باختصار من "
فتاوى اللجنة الدائمة " (المجموعة الأولى 24/361)
والله أعلم .