الحمد لله.
ثانياً :
من الشكوك التي يعانيها الأخ السائل ظنه أن الخطاب غير المقصود في ألفاظ الناس هي
نفسها التي توقع صاحبها في الشرك وهذا الثاني هو ما يفعله المشركون في دعائهم
وندائهم للأموات أو الجمادات يطلبون منهم كشف الضر وجلب النفع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
"وهذا ونحوه مما يبين أنَّ الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم
وغير قبورهم هم من المشركين الذين يدعون غير الله ، كالذين يدعون الكواكب والذين
اتخذوا الملائكة والنَّبيّين أرباباً ، قال الله تعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ
كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ.وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ آل عمران / 79 – 80 ] .
وقال تعالى : قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ
كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [
الإسراء / 56 – 57 ] .....
ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، ينهى أنْ يُدعى غيرُ الله لا مِن الملائكة ولا الأنبياء
ولا غيرهم ، فإنَّ هذا شركٌ أو ذريعةٌ إلى الشرك ، بخلاف ما يُطلب مِن أحدهم في
حياته من الدعاء والشفاعة ، فإنَّه لا يفضي إلى ذلك ، فإنَّ أحـداً من الأنبياء
والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته ، فإنَّه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد
موتهم، فإنَّ ذلك ذريعة إلى الشرك بهم ، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعةٌ إلى
الشرك...
فإنَّ الغائبَ والميتَ لا يَنهى مَن يشرك ، بل إذا تعلقت القلوبُ بدعائه وشفاعته
أفضى ذلك إلى الشرك به فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك كما قد وقع فيه
المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين... " انتهى من" مجموع الفتاوى
" ( 1 / 178-179 ) ، وانظر ( 1 / 312 و 1 / 69 - 70 و 1 / 294 ) .
وأما نقله الأخ السائل من عبارات : فإنها كلها لا تدل
على المحذور الذي نذكره هنا ؛ وذلك أن أصحابها لم يقصدوا النداء ولا المخاطبة ،
وإنما هو أسلوب من أساليب الجارية في اللغة العربية وغيرها من اللغات ، والمقصود
منها يعلمه السامع ويعلمه المتكلم قبله ، ولها مقاصد بلاغية ، بحسب السياق الواردة
فيه .
وقد تكلم بشيء من هذه العبارات السلف من الصحابة وغيرهم :
1. عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله فقال : إني أعلم أنك حجر
لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنِّي رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقبُّلك ما قبلتك .
رواه البخاري ( 1520 ) ومسلم ( 1270 ) .
2. ما يروى عن هارون الرشيد أنه كان يستلقي على قفاه وينظر الى السحابة الحاملة
للمطر ويقول " اذهبي إلى حيث شئتِ يأتيني خراجك " .
والحاصل أن الشرك في دعاء الأموات والأحجار والأشجار ونحوها ، إنما هو في دعائها
وطلب الحاجة منها ، وغير ذلك مما لا يجوز إلا لله تعالى وحده ، فلا يعطي ولا يمنع ،
ولا يضر ولا ينفع ، ولا يدعى ولا يعبد : إلا الله سبحانه .
وأما مجرد خطاب الحيوان والجماد ، فليس فيه شيء من ذلك ، لأن مخاطبه لا يتعلق قلبه
به ، ولا يرجو منه ضرا ولا نفعا ، كما قال عمر ، وليس له عنده شيء من التقديس ؛ بل
يعلم مع ذلك كله أنه جماد محض .
والله أعلم